يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، أنه اشتكى إلى ربه ، عز وجل ، ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم ، فقال : { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا } أي : لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ،
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} ليسمعوا دعائي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال نوح لما بلغ قومه رسالة ربه، أو أنذرهم ما أمره به أن ينذرهموه، فعصوه، وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده:"رَبّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً وَنهارا "إلى توحيدك وعبادتك، وحذّرتهم بأسك وسطوتك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون هذا من نوح عليه السلام بعد أن أخبر: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} [هود: 36]. فيكون القول منه قول معذر: إنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام، وإنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال، وإنه قد أبدى عذره في ذلك، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه.
ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض لاستنزال اللين والرحمة، لعل الله تعالى بلطفه يلين قلوبهم، فينقادوا للحق، ويرغبوا في الإجابة ليتخلصوا من العذاب، ويستوجبوا المغفرة من ربهم. فهو يخرج على أحد هذين الوجهين: إن كان قبل الإخبار، فهو على التعرض منه لاستنزال اللين والرحمة، وإن كان بعده فهو على إبداء العذر لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه، فينقادوا للحق؛ إذ لا يجوز أن يخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو يطمع أن يؤمنوا.
ثم قوله: {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} أي دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار ما أمكنني فيه الدعاء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيّنَ أَنّ الهداية ليست إليه، وقال: إنْ أَرَدْتَ إِيمانَهم فقلوبُهم بقدرتك -سبحانك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَيْلاً وَنَهَاراً} دائباً من غير فتور، مستغرقاً به الأوقات كلها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه المقالة قالها نوح عليه السلام بعد أن طال عمره وتحقق اليأس عن قومه، وقوله: {ليلاً ونهاراً} عبارة عن استمرار دعائه، وأنه لم ين فيه قط.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، أنه اشتكى إلى ربه، عز وجل، ما لقي من قومه، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم، فقال: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا} أي: لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء عمراً، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال: {رب} ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على التكذيب، شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به، واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل بعد بذله الجهد، وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى: {إني دعوت} أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة {قومي} أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني وفيهم قوة المحاولة لما يريدون. ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال: {ليلاً ونهاراً} فعبر بهذا عن المداومة.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{ليلاً ونهاراً} معناه سراً وجهراً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وراح نوح -عليه السلام- يواصل جهوده النبيلة الخالصة الكريمة لهداية قومه، بلا مصلحة له، ولا منفعة؛ ويحتمل في سبيل هذه الغاية النبيلة ما يحتمل من إعراض واستكبار واستهزاء.. ألف سنة إلا خمسين عاما.. وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد؛ ودرجة الإعراض والإصرار على الضلال ترتفع وتزداد! ثم عاد في نهاية المطاف يقدم حسابه لربه الذي كلفه هذا الواجب النبيل وذلك الجهد الثقيل! عاد يصف ما صنع وما لاقى.. وربه يعلم. وهو يعرف أن ربه يعلم. ولكنها شكوى القلب المتعب في نهاية المطاف، إلى الجهة الوحيدة التي يشكو إليها الأنبياء والرسل والمؤمنون حقيقة الإيمان.. إلى الله.. قال: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا؛ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا، واستكبروا استكبارا. ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا. فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا. مالكم لا ترجون لله وقارا؟ وقد خلقكم أطوارا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا؟ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا؟ والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا. والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا.. هذا ما صنع نوح وهذا ما قال؛ عاد يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الأخير في نهاية الأمد الطويل. وهو يصور الجهد الدائب الذي لا ينقطع: (إني دعوت قومي ليلا ونهارا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهارُ توكله على الله، وانتصار الله له، والإِتيانُ على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي:
- {أن أنذر قومك} الخ [نوح: 1].
- {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} الخ [نوح: 2].
- {قال رب إني دعوت قومي} الخ [نوح: 5].
- {فقلت استغفروا ربكم} الخ [نوح: 10].
- {قال نوح رب إنهم عصوني} الخ [نوح: 21].
- {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} الخ [نوح: 24].
- {وقال نوح رب لا تذر على الأرض} الخ [نوح: 26].
وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوّ وراحة البال وهي أوقات الليل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلم تشغلني أوضاع النهار ومشاغله عن الدعوة إليك، كما لم يبعدني الليل في راحته الاسترخائية التي تدفع إلى النوم عن ذلك، لأنني أعتبر مسألة الرسالة مسألةً حيويّةً تفرض على الرسول أن يتابع إبلاغها وتحريكها في حياة الناس، لحظةً بلحظةٍ، من خلال مراقبته للأوضاع التي يعيشونها في نقاط ضعفهم وقوّتهم، ليستفيد من أيّة حالةٍ عميقةٍ أو طارئةٍ، في سبيل الوصول إلى قناعات الناس الفكرية والروحية التي تتغير وتتبدل، تبعاً لما يحيط بهم من أوضاع، ولما تحفل به حياتهم من متغيّرات، لأن الإنسان قد يقتنع في الصباح على أساس بعض الأوضاع النفسية أو بعض الأحداث الطارئة بما لا يتأثر به في المساء، باعتبار اختلاف الأوضاع والأحداث، ما يجعل الرسول أو الداعية في حالة ملاحقةٍ دائمةٍ ورصدٍ دقيقٍ لحركة الناس اليومية، فلعلّ ذلك الإصرار على التبليغ في مدار الساعة يحقق شيئاً من التقدم في قناعاتهم. ولكنّ قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك، لأنهم قرروا الرفض الحاسم للرسالة وللرسول، فأغلقوا آذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير، وألسنتهم عن الحوار. وهذا ما عبر عنه نوح في تقريره الرسالي إلى ربه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً}