يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي : إنهم من الضالين الغاوين أهل النار ، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه ، فلا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا ، وغيا إلى غيهم .
وما ظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق ، لما جاءهم أول مرة ، فعاقبهم الله ، بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم ، وأبصارهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، الذي وعدوا به .
فحينئذ يعلمون حق اليقين ، أن ما هم عليه هو الضلال ، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق . ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئًا ، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ، ولا هم يستعتبون ، وأما الآيات فإنها تنفع من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ، فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه ? تعليله أن كلمة اللّه وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي ، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه ، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها ، فتكون نهايته إلى الضلال ، مهما تكن الآيات والبينات ، لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات . وعندئذ تكون كلمة اللّه وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم :
قال قتادة بن دِعَامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " {[14423]}
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت{[14424]} للأمة ، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة{[14425]} في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } أي : لا يؤمنون إيمانا ينفعهم ، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها ؛ ولهذا لما دعا موسى ، عليه السلام ، على فرعون وملئه قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ]
تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشّاكّين في صدق النبي صلى الله عليه وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا ، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة ، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غيرُ قابلة لحقائق الإيمان ، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون ، تلك أماراتهم . وهذا مَسوق مساق التأييس من إيمانهم .
ومعنى ( حقت ) ثبتت . و ( على ) للاستعلاء المجازي ، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به . والمراد بكلمات الله : أمر التكوين ، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون ، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة .
وقرأ غير نافع ، وابن عامر { كلمةُ ربك } على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة ، وهذا الكلام عظة للمشركين . قال غيرهم : وتحذير من أن يكونوا مظهراً لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم .
فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود ، والجملة كلها مستأنفة ، و ( إنّ ) للتوكيد المقصود به التحقيق ، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم .
ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل ، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون ( إن ) لمجرد الاهتمام بالخبر ، فتفيد التعليل والربط ، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك}، يعني وجبت عليهم كلمة العذاب، يقول: أي سبقت لهم الشقاوة من الله عز وجل في علمه،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد كلمة ربك، وهي لعنته إياهم بقوله:"ألا لَعْنَةُ اللّهِ على الظّالِمِينَ" فثبتت عليهم، يقال منه: حقّ على فلان كذا يحقّ عليه: إذا ثبت ذلك عليه ووجب.
وقوله: "لا يُؤمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمُ كُلّ آيَةٍ": لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرّون بوحدانية ربهم ولا بأنك لله رسول، ولو جاءتهم كل آية وموعظة وعبرة فعاينوها حتى يعاينوا العذاب الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه، إذ حقّت عليهم كلمة ربك حتى عاينوا العذاب الأليم، فحينئذ قال: "آمَنْتُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ "حين لم ينفعه قيله، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك، من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ ربك) أي علم ربك بأحوالهم، أي من كان علمه أنه لا يؤمن وقت اختياره الكفر كقوله: (من يضلل الله فلا هادي له)
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله
ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل، بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعبادا قضى لهم بالكرامة، فلا يتغيرون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم. صرح به قوله تعالى: {إن الذين حقت} أي وجبت وثبتت {عليهم} أي بأنهم أشقياء، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال: {كلمت ربك} أي المحسن إليك في جميع أمرك {لا يؤمنون} أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والمعنى: أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرّون على الكفر، ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة العذاب من ربك، وهي كلمة التكوين الدالة على سنته فيمن فقدوا الاستعداد للاهتداء، لا يؤمنون لرسوخهم في الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم وجهالتهم بهم من كل مكان، وإعراضهم عن آيات الإيمان، هذا معنى قوله: {لا يؤمنون} لا أنه تعالى منعهم من الإيمان منعا خلقيا قهريا لا كسب لهم فيه ولا اختيار. وهذا بمعنى الآية 33 من هذه السورة فراجع تفسيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه، فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه؟ تعليله أن كلمة اللّه وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال، مهما تكن الآيات والبينات، لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات. وعندئذ تكون كلمة اللّه وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تبين الآية حال المشركين فهم لا يؤمنون لنقص في المعجزة الكبرى، ولكن لأنهم سبقوا إلى الرد وأصروا عليه إصرارا ونفروا من الحق لا تردهم إليه معجزة، هم يطلبون معجزات مادية، ولو جاءتهم لأنكروها وتنكروا لها بعد فترة من الزمان، وقد كانت التجربة مصدقة في فرعون وملئه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وإنما المراد بهذه الآية وما ماثلها أن هناك طائفة من الناس قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فلم ينفع فيهم ترغيب ولا ترهيب، واختاروا عن عمد وإصرار طريق الهلاك والبوار، فلم يبق في قلوبهم –بعدما خيم عليها الظلام- أي منفذ للنور، وأصبحت الموعظة بالنسبة إليهم كالضرب في حديد بارد لا أثر لها ولا نفع.
هذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم علما أزليا بأنهم لن يوجهوا اختيارهم للإيمان.
فحكمه هنا لا ينفي عنهم مسئولية الاختيار، ولكنه علم الله الأزلي بما سوف يفعلون، ثم جاءوا على الاختيار فتحقق علم الله سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم.
وحكمه سبحانه مبنيُّ على الاختيار، وهو حكم تقديري...
ولا يقولنّ أحد، إن الله يعاقب بعد أن قدّر مسبقا؛ لن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الأزلي، وهم كانوا يتمتعون بحق الاختيار. والله سبحانه هو القائل: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125)} [التوبة].