{ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } للمغالبة مع موسى{[413]} { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } أي : أي شيء أردتم ، لا أعين لكم شيئًا ، وذلك لأنه جازم بغلبته ، غير مبال بهم ، وبما جاءوا به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمّا جَآءَ السّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ أَلْقُواْ ما أَنتُمْ مّلْقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لقومه : ائتوني بكلّ من يسحر من السحرة ، عليم بالسحر . فلما جاء السحرة فرعون ، قال موسى : ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم وفي الكلام محذوف قد ترك ، وهو : فأتوه بالسحرة فلما جاء السحرة ولكن اكتفى بدلالة قوله : فَلَمّا جاءَ السّحَرَةُ على ذلك ، فترك ذكره . وكذلك بعد قوله : ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ محذوف أيضا قد ترك ذكره ، وهو : «فألقوا حبالهم وعصيهم ، فلما ألقوا قال موسى » ولكن اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه ، فترك ذكره .
فلما ورد السحرة باستعدادهم للمعارضة خيّروا موسى كما ذكر في غير هذه الآية ، فقال لهم عن أمر الله : { ألقوا ما أنتم ملقون }{[6191]} .
جملة : { فلما جاء السحرة } عطف على جملة : { وقال فرعون } ، عُطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة { قال فرعون } بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمِثل الشيء المأمور به ، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقُب قوله : { ائتوني بكل ساحر } هو إتيانهم بهم ، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله : { جاء السحرة } على طريقة الإيجاز . والتقدير : فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى . والتعريف في { السحرة } تعريف العهد الذكري .
وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهاراً لقوة حجته لأن شأن المبتدىء بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه ، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب ، والتي يتطلَّب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم ، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خَيَّروا موسى بين أن يبتديء هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا ، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين .
وفعل الأمر في قوله : { ألقوا ما أنتم ملقون } مستعمل في التسوية المرادِ منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين .
والإلقاء : رمي شيء في اليد إلى الأرض . وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض . وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم ، وأنها يخيَّل من سحرهم أنها تسعى ، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حياً .
و { ما أنتم ملقون } قصد به التعميم البدلي ، أيّ شيء تلقونه ، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم ، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله .
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية ، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه « المواقف » .
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية ، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة ، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه ، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء ، ليكونوا مثلاً للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى عليه السلام حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده ، وبأن العاقبة للحق . وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام ، ولأجل هذا لم يذكر مفعول { ألقوا } لتنزيل فعل { ألقوا } منزلة اللازم ، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله .
ومعنى { جئتم به } أظهرتموه لنا ، فالمجيء قد استعمل مجازاً في الإظهار ، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه ، فالملازمة عرفية . وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر ، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلِّهم قد أقبلوا من مدن عديدة ، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو : جاء بكذا ، فإنه وإن استقام في نحو { وجاءوا على قميصه بدَم كذب } [ يوسف : 18 ] لا يستقيم في نحو { إنّ الذين جَاءوا بالإفك } [ النور : 11 ] .