{ 69 - 76 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ }
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } الواضحة البينة متعجبًا من حالهم الشنيعة . { أَنَّى يُصْرَفُونَ } أي : كيف ينعدلون عنها ؟ وإلى أي شيء يذهبون بعد البيان التام ؟ هل يجدون آيات بينات تعارض آيات الله ؟ لا والله . أم يجدون شبهًا توافق أهواءهم ، ويصولون بها لأجل باطلهم ؟ فبئس ما استبدلوا واختاروا لأنفسهم ، بتكذيبهم بالكتاب ، الذي جاءهم من الله ، وبما أرسل الله به رسله ، الذين هم خير الخلق وأصدقهم ، وأعظمهم عقولاً .
وأمام نشأة الحياة البشرية . وفي ظل مشهد الحياة والموت . وحقيقة الإنشاء والإبداع . . يبدو الجدال في آيات الله مستغرباً مستنكراً ؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجياً نكيراً . ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة :
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ? الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون . إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ، في الحميم ثم في النار يسجرون . ثم قيل لهم : أين ما كنتم تشركون من دون الله ? قالوا : ضلوا عنا ، بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً . كذلك يضل الله الكافرين . ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها . فبئس مثوى المتكبرين . .
إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله ، في ظل استعراض هذه الآيات . مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك !
وقوله : ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنّى يُصْرَفُونَ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك ، الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته أنّى يُصْرَفُونَ يقول : أيّ وجه يصرفون عن الحق ، ويعدلون عن الرشد ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنّى يُصْرَفُونَ : أنى يكذبون ويعدلون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أنّى يُصْرَفُونَ قال : يُصْرَفُونَ عن الحقّ .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عنى بها أهل القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن محمد بن سيرين ، قال : إن لم تكن هذه الاَية نزلت في القدرية ، فإني لا أدري فيمن نزلت : ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ إلى قوله : لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئا كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكافِرِينَ .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن سيرين ، قال : إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا علم لنا به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي ، عن أبي قبيل ، قال : أخبرني عقبة بن عامر الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «سَيَهْلِكُ مِنْ أُمّتِي أهْلُ الكِتابِ ، وأهْلُ اللّينِ » فقال عقبة : يا رسول الله ، وما أهل الكتاب ؟ قال : «قَوْمٌ يَتَعَلّمُونَ كِتابَ اللّهِ يُجادِلُونَ الّذِينَ آمَنُوا » ، فقال عقبة : يا رسول الله ، وما أهل اللّين ؟ قال : «قَوْمٌ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ ، ويُضَيّعُونَ الصّلَوَاتِ » . قال أبو قبيل : لا أحسب المكذّبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا ، وأما أهل اللّين ، فلا أحسبهم إلا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ، ولا يعرفون شهر رمضان .
وقال آخرون : بل عنى به أهل الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ قال : هؤلاء المشركون .
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن زيد وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله : الّذِينَ كَذّبُوا بالْكِتَابِ وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا .
بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر : 4 ] وتكرر ذلك خمس مرات فيها ، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإِبطال كلها إذ ابتدىء بإبطاله على الإِجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر : 4 ] ثم بإبطاله بقوله : { الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله } [ غافر : 35 ] ، ثم بقوله : { إنَّ الذين يُجادلُون في ءايات الله بِغَير سُلطاننٍ أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ } [ غافر : 56 ] ثم بقوله : { ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله أنَّى يُصْرَفُون } .
وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإِنحاء على جدالهم في آيات الله ، فجملة { ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله } مستأنفة للتعجيب من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة . والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظاً ، والمراد به : التقرير على الإِثبات ، كما تَقدم غير مرة ، منها عند قوله : { قال أو لم تؤمن } في سورة [ البقرة : 260 ] .
والرؤية عِلمية ، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام ب { أنى يُصْرَفُونَ } ، و ( أنَّى ) بمعنى ( كيف ) ، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله : { أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } [ آل عمران : 47 ] أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشَؤه ، ولذلك بني فعل { يصرفون } للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم . ويجوز أن تكون ( أنَّى ) بمعنى ( أين ) ، أي أَلا تعجبُ من أين يصرفهم صارف عن الإِيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شُبَه انصرافهم عن الإِيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسِهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم ، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد « أين يُذْهَب بك » .
وبناء فعل { يصرفون } للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله} يعني آيات الله القرآن أنه ليس من الله عز وجل.
{أنى يصرفون}: من أين يعدلون عنه إلى غيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنّى يُصْرَفُونَ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته "أنّى يُصْرَفُونَ "يقول: أيّ وجه يصرفون عن الحق، ويعدلون عن الرشد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تر} هو حقيقة الرؤية والنظر، ويحتمل: {ألم تر} ألم تعلم؛ معناه: ألم تعلم سفه الذين يجادلون في آيات الله أو جهل {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ} أي في دفع آيات الله بغير سلطان أتاهم. فعلى ذلك هذا.
{أَنَّى يُصْرَفُونَ} أي أيّ حجة تصرفهم؟ أي صرفتم عن آيات الله، أو من أين يصرفون؟ ويعرضون عن آيات الله بعد ما تقرّر عندهم أنها آيات الله؟.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة: {ألم تر} أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال: {إلى الذين يجادلون} أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم {أنَّى} أي وكيف ومن أي وجه.
{يُصرفون} عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم -كما قال ابن برجان- بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} وتكرر ذلك خمس مرات فيها، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإِبطال كلها؛ إذ ابتدئ بإبطاله على الإِجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] ثم بإبطاله بقوله {الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله} [غافر: 35]، ثم بقوله: {إنَّ الذين يُجادلُون في ءايات الله بِغَير سُلطانٍ أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ} [غافر: 56] ثم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله أنَّى يُصْرَفُون}. وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك؛ فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإِنحاء على جدالهم في آيات الله، فجملة {ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله} مستأنفة للتعجيب من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة. والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظاً، والمراد به: التقرير على الإِثبات، كما تَقدم غير مرة، منها عند قوله: {قال أو لم تؤمن} في سورة [البقرة: 260]...