وهنا يلفت القرآن أنظارهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم ، ويأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يحذرهم من سوء مصير هذا الإنكار والاستهزاء ، فيقول : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين : سيروا فى الأرض لتروا بأعينكم مصارع المكذبين بما جاءهم به الرسل من قبلكم . ولتعتبروا بما أصابهم بسبب إجرامهم ، وإنكارهم للبعث والحساب يوم القيامة .
فالآية الكريمة توجههم إلى ما من شأنه أن يفتح مغاليق قلوبهم المتحجرة وأن يزيل عن نفوسهم قسوتها وعنادها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة: {سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} يعني كفار الأمم الخالية كيف كان عاقبتهم في الدنيا الهلاك، يخوف كفار مكة مثل عذاب الأمم الخالية، لئلا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقد رأوا هلاك قوم لوط، وعاد، وثمود.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء المكذّبين ما جئتهم به من الأنباء من عند ربك: "سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا "إلى ديار من كان قبلكم من المكذّبين رسلَ الله ومساكنهم كيف هي، ألم يخرّبها الله، ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم، وردّهم عليهم نصائحهم فخلت منهم الديار وتعّفت منهم الرسوم والآثار، فإن ذلك كان عاقبة إجرامهم، وذلك سنة ربكم في كلّ من سلك سبيلهم في تكذيب رسل ربهم، والله فاعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسول ربكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول والله أعلم: لو سرتم، فعلى ذلك ينزل بكم ما أنزل بأولئك بتكذيبهم الرسل بالبعث وغيره. فيكون قوله: {سيروا في الأرض} ليس على حقيقة الأمر بالسير، ولكن على ما ذكرنا، أي لو سرتم لعرفتم ما حل بهم بتكذيبهم. ويحتمل أن يكون الأمر بالسير في الأرض أمرا بالتفكر في ما نزل بأولئك، والأمر بالنظر في عاقبة أمرهم أمر بالاعتبار فيهم. وفي أمر أولئك أمر بهذا ليزجرهم ذلك عن مثل صنيعهم وفعلهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة؛ لأنّ تأنيثها غير حقيقي؛ ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفاً للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها.
ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين، ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها، وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير، لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} وفيه سؤالان:
السؤال الثاني: لم لم يقل عاقبة الكافرين؟
جوابه: الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما لم يبق هذا الذي أقامه من دلائل القدرة على كل شيء عموماً، وعلى البعث خصوصاً مقال يرد عن الغي إلا التهديد بالنكال، وكان كلامهم هذا موجباً للنبي صلى الله عليه وسلم من الغم والكرب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، قال سبحانه ملقناً له ومرشداً لهم في صورة التهديد: {قل سيروا في الأرض} أي أيها المعاندون أو العمي الجاهلون. ولما كان المراد الاسترشاد للاعتقاد، والرجوع عن الغي والعناد، لكون السياق له، لا مجرد التهديد، قال {فانظروا} بالفاء المقتضية للإسراع، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلاً للعناية به، والسؤال عنه، فقال: {كيف كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {عاقبة المجرمين} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل من الصلاة التي هي الوصلة بين الله وبين عباده، والزكاة التي هي وصلة بين بعض العباد وبعض، لتكذيبهم الرسل الذين هم الهداة إلى ما لا تستقل به العقول، فكذبوا بالآخرة التي ينتج التصديق بها كل هدى، ويورث التكذيب بها كل عمى -كما تقدمت الإشارة إليه في افتتاح السورة، فإنكم إن نظرتم ديارهم، وتأملتم أخبارهم، حق التأمل، أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم، فلم تضروا إلا أنفسكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين). وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم، فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية؛ وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها؛ وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد؛ فإن السنن لا تحيد ولا تحابي. والسير في الأرض يطلع النفوس على مُثُل وسِيَر وأحوال فيها عبرة، وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة. وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها. والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة، وتدبر خطواتها وحلقاتها، ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق، غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ} وتطلعوا إلى تاريخ الأمم التي كانت قبلكم ممن كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر وتمرّدوا على حقائق الإيمان وشرائعه من دون حجةٍ ولا برهانٍ، فلم يكن لديهم أساس من العلم والمعرفة في ما يرفضونه، أو ينحرفون عنه من الحقيقة الإلهية والخط الرسالي، ما يجعل المسألة في حجم الجريمة، لأن مفهوم الجريمة في المضمون القرآني، لا يقتصر على التمرّد العملي في ما يقوم به الناس ضد بعضهم البعض، أو ضد أنفسهم، بل يتعداه إلى التمرد الفكري الذي لا يملك الإنسان مقوّماته، ولا يتحرك به من مواقع القناعة، بل من مواقع العناد، ولا سيّما إذا كان في ذلك افتراءٌ على الله أو تكذيبٌ بآياته. وهذا مما جاءت به الآيات مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]. ما يجعل ذلك في المستوى الأعلى من الظلم الذي هو جريمة إنسانية في ما يمثله من حالةٍ عدوانية.. ولهذا فإن الآية تجعل من الدعوة إلى السير في الأرض لدراسة مصير أمثال هؤلاء الكافرين ممن سبقهم، تحذيراً لهم عن ملاقاة المصير نفسه {فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} لتتفادوا الوقوع في النتائج السيئة القاسية من خلال ذلك. وقد يقول قائل: إن هذه الآية ليست ردّاً على ما أثاروه من الاستبعاد، ومن التأكيد على أسطوريَّة هذه العقيدة، بل هي مجرد تحذير وتهديد، مما لا ينسجم مع الأسلوب الفكري في بناء العقيدة. والجواب عن ذلك: أن المقصود من التحذير هو إيجاد صدمةٍ نفسيةٍ قويةٍ ضد حالة الاستخفاف الفكري التي يواجهون بها مسألة العقيدة، بالاستبعاد تارة، وبالاستهزاء أخرى، وباللامبالاة ثالثةً، ما يجعل من حالتهم حالةً عدوانيةً مضادّة، تستهدف إسقاط الموقف لا مناقشة الفكرة، ولذلك فإن الرّد لا بد من أن يكون ردّاً مضاداً للثقة النفسية التي يتمثلونها في موقفهم، ليدفعهم ذلك إلى إعادة النظر في أسلوبهم العملي من خلال الخوف من نتائج المصير. وهذه هي الطريقة الحكيمة التي ينطلق بها المنهج القرآني، في مناقشة مواقع الفكر بمواقع الفكر، ومواجهة قضايا التمرد والاستخفاف واللامبالاة، بأسلوب الصدمة النفسية القائمة على التحذير والتهديد، لأن ذلك هو خطّ الحكمة في وضع الشيء في موضعه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر. ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامتهُ الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يُرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث بدلا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار، وأنذرتهم بعقابه المخزي... فوجهت الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) قائلةً: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين). فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.. فهلاّ سرتم في الأرض قليلا، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون. ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا... فأنتم كأُولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!. والقرآن دعا مراراً إلى السير في الأرض، ومشاهدة آثار الماضين، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب، وقصور الظالمين المتداعية، والقبور الدارسة والعظام النخرة، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!! إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحي لأُولئك الماضين، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق... والواقع كذلك، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثراً لا تتركه مطالعة عدّة كتب تاريخية!... ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير ب «المجرمين» بدلا من «المكذبين».. وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق، بل أساسه العناد واللجاجة وتلوثهم بأنواع الجرائم!