{ 15 - 26 } { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }
يقول [ الله ] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة موسى مع فرعون ، لتكون تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين ، وتهديدا لهم حتى يقلعوا عن غيهم . . فقال - تعالى - :
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث ، حتى انتهوا فى ذلك الإِنكار إلى حد الاستهزاء فى قولهم : { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } وكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر - سبحانه - قصة موسى - عليه السلام - ، وبين أنه تحمل المشقة فى دعوة فرعون ، ليكون ذلك لتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم .
الثانى : أن فرعون كان أقوى من كفار قريش . . فلما تمرد على موسى ، أخذه الله - تعالى - نكال الآخرة والأولى ، فكذلك هؤلاء المشركون فى تمردهم عليك ، إن أصروا ، أخذهم الله وجعلهم نكالا . .
والمقصود من الاستفهام فى قوله - تعالى - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى . . . } التشويق إلى الخبر ، وجعل السامع فى أشد حالات الترقب لما سيلقى إليه ، حتى يكون أكثر وعيا لما سيسمعه .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لقصد تسليته ، ويندرج فيه كل من يصلح له .
والمعنى : هل وصل إلى علمك - أيها الرسول الكريم - خبر موسى - عليه السلام - مع فرعون ؟ إن كان لم يصل إليك فهاك جانبا من خبره نقصه عليك ، فتنبه له ، لتزداد ثباتا على ثباتك ، وثقة فى نصر الله - تعالى - لك على ثقتك .
يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون ، وأيده بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه ، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر . وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ؛ ولهذا قال في آخر القصة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }
فقوله : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؟ أي : هل سمعت بخبره ؟
هذه الآية اعتراض بين جملة { فإنما هي زجرة واحدة } [ النازعات : 13 ] وبين جملة { أأنتم أشد خلقاً } [ النازعات : 27 ] الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإِنذار بما بعده دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من البعث لتَماثُل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال فرعون وقومه وتماثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه بحال موسى عليه السلام مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وموعظة للمشركين وأيمتهم مثل أبي جهل وأميةَ بنِ خلف وأضرابهما لقوله في آخرها { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [ النازعات : 26 ] .
و { هل أتاك } استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطَببِ عن سابققِ علمه بذلك الخبر ، فسواء في ذلك عَلِمه من قبل أو لم يعلمه ، ولذلك لا ينتظِر المتكلم بهذا الاستفهام جواباً عنه من المسؤول بل يعقّب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه .
ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غيرَ { هل } لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهَم عنه ، فهي في الاستفهام مثل ( قَد ) في الإِخبار ، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام ، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر ، ومن قبيله قولهم في الاستفهام : أليس قد علمتَ كذا فيأتون ب ( قد ) مع فعل النفي المقترن باستفهام إِنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققاً عند المتكلم .
والخطاب لغير معيّن فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول .
و{ أتاك } معناه : بلغك ، استعير الإِتيان لحصول العلم تشبيهاً للمعقول بالمحسوس كأنَّ الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية ، أو كأنَّ الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإِتيان على طريقة الاستعارة المكنية ، قال النابغة :
أتاني أبيتَ اللعن أنَّك لُمتني
والحديث : الخبر ، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان ، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث ، أي خبر الحادث .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل أتاك يا محمد حديث موسى بن عمران، وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدّس، يعني بالمقدّس: المطهّر المبارك...
وقد اختلف أهل التأويل في قوله:"طُوًى"؛
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طَأِ الأرض حافيا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الوادي قُدّس طُوًى: أي مرّتين، وقد بيّنا ذلك كله ووجوهه، فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هل أتاك حديث موسى} فمنهم من يقول: قد أتاك، فخوفهم به. وقال الحسن: لم يكن أتاه، فأتاه بهذا كما يقول الرجل: هل أتاك فعل فلان، وهو يريد أن يذكره بهذا فيعلمه مع علمه أنه لم يكن علمه من قبل. وقد ذكرنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد من تثبيت الرسالة والتخويف لمن أساء صحبة الرسل عليهم السلام لئلا ينزل بهم ما نزل بفرعون وأتباعه حين أساؤوا صحبة الرسول موسى عليه السلام...
المسألة الأولى: اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين:
(الأول): أنه تعالى حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم: {تلك إذا كرة خاسرة} وكان ذلك يشق على محمد صلى الله عليه وسلم فذكر قصة موسى عليه السلام، وبين أنه تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ليكون ذلك كالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم (الثاني): أن فرعون كان أقوى من كفار قريش وأكثر جمعا وأشد شوكة، فلما تمرد على موسى أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك إن أصروا أخذهم الله وجعلهم نكالا.
المسألة الثانية: قوله: {هل أتاك} يحتمل أن يكون معناه أليس قد {أتاك حديث موسى} هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام، أما إن لم يكن قد أتاه فقد يجوز أن يقال: {هل أتاك} كذا، أم أنا أخبرك به فإن فيه عبرة لمن يخشى...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فكان ذلك مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشيراً بهلاك من يكذبه، ونجاته هو من أذاهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هل أتاك} أي يا أعلم الخلق {حديث موسى} أي ما كان من أمره الذي جددناه له حين أردناه فيكون كافياً لك في التسلية ولقومك في الحث على التصديق والتنبيه على الاعتبار والتهديد على التكذيب والإصرار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة موسى هي أكثر القصص ورودا وأكثرها تفصيلا في القرآن.. وقد وردت من قبل في سور كثيرة. وردت منها حلقات منوعة. ووردت في أساليب شتى. كل منها تناسب سياق السورة التي وردت فيها؛ وتشارك في أداء الغرض البارز في السياق. على طريقة القرآن في إيراد القصص وسرده. وهنا ترد هذه القصة مختصرة سريعة المشاهد منذ أن نودي موسى بالوادي المقدس، إلى أخذ فرعون.. أخذه في الدنيا ثم في الآخرة.. فنلتقي بموضوع السورة الأصيل. وهو حقيقة الآخرة. وهذا المدى الطويل من القصة يرد هنا في آيات معدودات قصار سريعة، ليناسب طبيعة السورة وإيقاعها. وتتضمن هذه الآيات القصار السريعة عدة حلقات ومشاهد من القصة.. وهي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم]: (هل أتاك حديث موسى؟).. وهو استفهام للتمهيد وإعداد النفس والأذن لتلقي القصة وتمليها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{هل أتاك} استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخبر من غير قصد إلى استعلام المخاطَبِ عن سابقِ علمه بذلك الخبر، فسواء في ذلك عَلِمه من قبل أو لم يعلمه، ولذلك لا ينتظِر المتكلم بهذا الاستفهام جواباً عنه من المسؤول بل يعقّب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه. ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غيرَ {هل} لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهَم عنه، فهي في الاستفهام مثل (قَد) في الإِخبار، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر، ومن قبيله قولهم في الاستفهام: أليس قد علمتَ كذا فيأتون ب (قد) مع فعل النفي المقترن باستفهام إِنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققاً عند المتكلم. والخطاب لغير معيّن فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول. و {أتاك} معناه: بلغك، استعير الإِتيان لحصول العلم تشبيهاً للمعقول بالمحسوس كأنَّ الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية، أو كأنَّ الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإِتيان على طريقة الاستعارة المكنية، قال النابغة: أتاني أبيتَ اللعن أنَّك لُمتني والحديث: الخبر، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث، أي خبر الحادث...
الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبرز جزءاً من قصة موسى يناسب السياق الذي جاء فيه، سياق الحديث عن البعث وإثبات حقيقته لأولئك الكفار الذين أنكروه وكذبوا رسول الله وأعنتوه... فيقول الله عز وجل له: {هل أتاك حديث موسى} أي: ما لهؤلاء القوم يبالغون في عنتهم وتكذيبهم وطغيانهم، ألم يعلموا قصة موسى مع فرعون؟! مع أنهم لم يصلوا لما وصل إليه فرعون من الملك، ولم يطغوا طغيانه هو، فلقد وصل فرعون لقمة الطغيان، فادعى أنه إله، بل ادعى أنه هو إله العالمين الوحيد، فقال: {ما علمت لكم من إله غيري (38)} [القصص]. وادعى أنه ربهم، بل ربهم الأعلى، فقال: {أنا ربّكم الأعلى (24)} [النازعات]. فكان طغيان فرعون أقصى من طغيان هؤلاء، ومع ذلك ما تخلى الله عز وجل عن رسوله موسى عليه السلام في أن ينصره على فرعون في الدنيا قبل الآخرة.
نفهم من ذلك أنه يريد أن يبلغهم رسالة، وهي أن لا يظنوا أن ما يخوفهم به هو عذاب القيامة فقط، بل هناك عذاب قبل ذلك، فلن نكذب رسلنا، سنجعل رسلنا دائماً صادقين، ونجعل رسلنا دائما منتصرين.
فمهما بلغ خصومك يا محمد من الطغيان ومن العنت، ومن إرهاق الفئة المؤمنة وإتعابهم، فلينظروا إلى قصة فرعون.
ذلك تخويف للقوم المنكرين، ومن ناحية أخرى فهو إيناس لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل ولا تستعجل لهم (35)} [الأحقاف]. وها هي الأمثلة أمامك، هذه الأمثلة انتهت دائماً بنصر رسل الله، فلا يغرنك من هؤلاء المعاندين ذلك العناد والإعراض، ولا يبلغن منك اليأس مبلغه بسبب موقفهم.
إن القرآن حينما يعرض لمثل هذا القصص يأتي بالغرض المزدوج، أي أنه يأتي بالأمر الواحد ويجعل له مغزيين اثنين معاً، فهي تهديد للعدو وطمأنة للرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الوقت، فالآية تشمل الأمرين معاً: تهديدهم وتخويفهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وطمأنة النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك رسولاً من قبله فعل معه قومه ذلك، ومع ذلك نصرناه، فالأسلوب الواحد أعطى الغرضين معاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسى (عليه السلام) وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي. ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللّه أسهل من أن يتصور.. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيب لخواطرهم...