ثم ذكر وصف أوليائه فقال : { الَّذِينَ صَبَرُوا ْ } على أوامر الله وعن نواهيه ، وعلى أقدار الله المؤلمة ، وعلى الأذية فيه والمحن { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ْ } أي : يعتمدون عليه في تنفيذ محابّه ، لا على أنفسهم . وبذلك تنجح أمورهم وتستقيم أحوالهم ، فإن الصبر والتوكل ملاك الأمور كلها ، فما فات أحدا شيء من الخير إلا لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه ، أو لعدم توكله واعتماده على الله .
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء المهاجرين بوصفين كريمين فقال : { الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أى : هذا الأجر العظيم لهؤلاء المهاجرين الذين صبروا على ما أصابهم من عدوان وظلم ، وفوضوا أمرهم إلى خالقهم ، فاعتمدوا عليه وحده ، ولم يعتمدوا على أحد سواه .
وصفتا الصبر والتوكل على الله . إذا دخلا فى قلب ، حملاه على اعتناق كل فضيلة ، واجتناب كل رذيلة .
وعبر عن صفة الصبر بصيغة الماضى للدلالة على أن صبرهم قد آذن بالانتهاء لانقضاء أسبابه وهو ظلم أعدائهم لهم ، لأن الله - تعالى - قد جعل لهم مخرجا بالهجرة ، وذلك بشارة لهم .
وعبر عن صفة التوكل بصيغة المضارع للإِشارة إلى أن هذه الصفة ديدنهم فى كل وقت ، فهم متوكلون عليه - سبحانه - وحده فى السراء والضراء ، وفى العسر واليسر ، وفى المنشط والمكره .
والمتأمل فى هاتين الآيتين الكريمتين ، يراهما قد غرستا فى النفوس محبة هذا الدين ، والاستهانة بكل ألم أو ضر أو مصيبة فى سبيل إعلاء كلمته ، والرغبة فيما عند الله - تعالى - من أجر وثواب .
ثم رد - سبحانه - على المشركين الذين أنكروا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من البشر ، فبين - سبحانه - أن الرسل السابقين الذين لا ينكر المشركون نبوتهم كانوا من البشر ، فقال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ . . . } .
{ الذين صبروا } صفة « للذين هاجروا » . والصبر : تحمّل المشاقّ . والتّوكّل : الاعتماد .
وتقدم الصبر عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } أوائل سورة البقرة ( 45 ) . والتوكل عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة آل عمران ( 159 ) .
والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكّل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه ، وأن الله قد جعل لهم فرجاً بالهجرة الواقعة والهجرة المترقّبة . فهذا بشارة لهم .
وأنّ التوكّل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالاً جليلة تتمّ لهم بالتوكّل على الله في أمورهم فهم يكرّرونه . وفي هذا بشارة بضمان النجاح .
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ سورة الزمر : 10 ] .
وتقديم المجرور في قوله تعالى : { وعلى ربهم يتوكلون } للقصر ، أي لا يتوكّلون إلاّ على ربّهم دون التوكّل على سادة المشركين وولائهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {الذين صبروا} على العذاب في الدنيا، {وعلى ربهم يتوكلون}، يعني: وبه يثقون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، وآتيناهم الثواب الذي ذكرناه، الذين صبروا في الله على ما نابهم في الدنيا. "وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ "يقول: وبالله يثقون في أمورهم، وإليه يستندون في نوائب الأمور التي تنوبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال الحسن: على ربهم؛ يثقون في إنجاز ما وعد لهم في الآخرة أنه ينجز ذلك. ويحتمل قوله: {صبروا} على أمره، أو {صبروا} على الهجرة وانقطاع ما ذهب عنهم وفراق ما كان لهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الصبرُ: الوقوفُ بحسب جريان القضاء، والتوكل: التوقي بالله بُحُسْن الرجاء. ويقال صبروا في الحال، وتوكلوا على الله في تحقيق الآمال. ويقال الصبر: تحسِّي كاساتِ المقدور، والتوكل: الثقة في الله في استدفاع المحذور. ويقال الصبرُ: تجرُّعُ ما يُسْقَى، والتوكل: الثقة بما يرجو. ويقال إنما يقوَوْن على الصبر بما حققوا من التوكل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الذين صَبَرُواْ} عنى: هم الذين صبروا. أو أعني الذين صبروا، وكلاهما مدح، أي: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والصبر يجمع: عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، و التوكل بتفاصيل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلاً ويتوكل، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل»، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له.
وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل؛ أما الصبر فللسعي في قهر النفس، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق؛ فالأول: هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني: آخر هذا الطريق ونهايته. والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نبه على إحسانه إليهم، وكان فيه من أول الأمر نوع غموض لظهور الكفرة في بادي الرأي، وصفهم بما يحتاج إليه في الاستجلاب لتمامه حثاً وإلهاباً، فقال تعالى -واصفاً للمهاجرين بياناً لأصل ما حملهم على ما استحقوا به هذا لأجر الجزيل -: {الذين صبروا} أي استعملوا الصبر على ما نابهم من المكاره من الكفار وغيرهم في الإقامة بين أظهرهم مدة ثم في الهجرة بمفارقة الوطن الذي هو حرم الله المشرب حبه لكل قلب، فكيف بقلوب من هو مسقط رؤوسهم ومألف أبدانهم ونفوسهم، وفي بذل الأرواح في الجهاد وغير ذلك، ولفت الكلام إلى وصف والإحسان تنبيهاً على ما يحمل على التوكل فقال تعالى: {وعلى ربهم} أي المحسن إليهم بإيجادهم وهدايتهم وحده {يتوكلون *} في كل حالة يريدونها رضى بقضاء الله تعالى.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
والوصفان المذكوران: الصبر والتوكل، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق والمدافع عنه أن يكونا خلقا له، إذ لا ظفر بغاية إلا بهما.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ْ} أي: يعتمدون عليه في تنفيذ محابّه، لا على أنفسهم. وبذلك تنجح أمورهم وتستقيم أحوالهم، فإن الصبر والتوكل ملاك الأمور كلها، فما فات أحدا شيء من الخير إلا لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه، أو لعدم توكله واعتماده على الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هؤلاء (الذين صبروا) واحتملوا ما احتملوا (وعلى ربهم يتوكلون) لا يشركون به أحدا في الاعتماد والتوجه والتكلان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكّل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه، وأن الله قد جعل لهم فرجاً بالهجرة الواقعة والهجرة المترقّبة. فهذا بشارة لهم. وأنّ التوكّل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالاً جليلة تتمّ لهم بالتوكّل على الله في أمورهم فهم يكرّرونه. وفي هذا بشارة بضمان النجاح.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [سورة الزمر: 10].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تحوّل الجانب الشعوري فيهم إلى جانب حيٍّ، يتغذى بالعلاقات الإيمانية الإنسانية، بدلاً من العلاقات الذاتية.. من أجل صنع الإنسان الجديد الذي لا يمثل الحرمان من أجل الدعوة إلى الله عنده حالةً سلبيةً في ذاته، بل يمثل لوناً من ألوان الفرح الروحي الذي يعيش اللذّة في رضا الله، أكثر مما يعيشها في إرضاء نوازعه الذاتية. من هنا، فإن قيمة الصبر، تكمن في ما يحققه للمؤمن من أجواء روحية تعطيه إمكانية التماسك، وامتداد التحرك، ومواجهة الصعوبات بقوّة، وتحدي التهاويل باطمئنان، وانتظار المستقبل بثقة، بالرغم من كل ما يثيره الآخرون أمامه من تهاويل الخطر، حتى إذا وقف أمام الأشباح المخيفة التي تحملها تهاويل المستقبل الغامض، كان التوكل على الله هو السبيل للحصول على حالة الهدوء النفسي، والثقة بالنصر، من خلال الثقة بالله. وهذا ما وصف به الله المهاجرين الصابرين {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بما يعنيه مضمون التوكل، من إرجاع الأمور كلها إلى الله، في ما لا يملك الإنسان الوسيلة العملية للتخلص منه، أو لمواجهته بالإمكانات العاديّة، لأن الله هو الذي يملك الأمر كله وهو المستعان في كل شيء. وبذلك فلن تتوقف المسيرة بالتوكل، بل تبقى مستمرة في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، مهما أثير أمام الدعاة من عقبات وتحديات وتهاويل، غير أنها تحاول التقاط أنفاسها لتعيد النظر في خططها، وفي ما قطعته من مراحل على الطريق، وفي ما بقي لها منه.. وفي ما تواجهه من حواجز وموانع، لتفكر في ذلك كله، ولتدبر منه ما تستطيع تدبيره، وتحلّ منه ما يمكن أن تجد له حلاً، ثم تتوكل على الله في ما لا تستطيع السيطرة عليه، وتترك الأمر فيه إليه، وهذا ما يجعل من التوكل مصدر حركةٍ واعيةٍ في الواقع، لا مصدر هروب من مواجهته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...وتظهر لنا جملة (من بعدما ظلموا) عدم ترك الميدان فوراً، بل لابدّ من الصبر والتحمل قدر الإِمكان. أمّا عندما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته، وإضعاف المؤمنين.. فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل، حتى تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية ...
قال البعض: إِنّ انتخاب «الصبر» هنا، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إلى اللّه يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الانقطاع عن كل شيء غير اللّه عزَّ وجلّ والارتباط به. وعلى هذا، تكون الصفة الأُولى لأوّل الطريق والثانية لآخره.
وعلى أية حال.. فلا سبيل إلى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية، فعلى الإِنسان أنْ يقطع علائقه المادية الباطنية أوّلاً بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية، ليستطيع أنْ يهاجر ويترك دار الكفر مع كل ما له فيها منتقلا إلى دار الإِيمان.