وقوله - سبحانه - : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } بيان لرذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددو . والتراث : هو المال الموروث عن الغير . والمراد بالأكل مطلق الانتفاع ، وخص الأكل بالذكر ، لأنه يشمل معظم وجوه التصرفات المالية .
والَّلُّم : الجمع بدون تفرقة بين الحلال والحرام ، مأخوذ من قولهم : لَمَّ الطعام ، إذا أكله كله دون أن يترك منه شيئا .
أى : ومن صفاتكم القبيحة أنكم تأكلون المال الموروث عن غيركم ، أكلا شديدا ، بحيث لا تتركون منه شيئا ، ولا تفرقون بين ما هو حلال أو حرام ، ولا بين ما يحمد وما لا يحمد ، بل تأخذون حقوقكم وحقوق غيركم من النساء والصبيان .
وقوله : وتَأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا يقول تعالى ذكره : وتأكلون أيها الناس الميراث أكلاً لمّا ، يعني : أكلاً شديدا ، لا تتركون منه شيئا ، وهو من قولهم : لممت ما على الخِوان أجمع ، فأنا ألمه لمّا : إذا أكلت ما عليه ، فأتيت على جميعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ ، قال : حدثنا الأنصاريّ ، عن أشعث ، عن الحسن وَتأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا قال : الميراث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَتأكُلُونَ التّرَاثَ أي الميراث .
وكذلك في قوله : أكْلاً لَمّا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وَتأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا يقول : تأكلون أكلاً شديدا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : وَتأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا قال : نصيبه ونصيب صاحبه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : أكْلاً لَمّا قال : اللمّ : السفّ ، لفّ كل شيء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أكْلاً لَمّا : أي شديدا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أكْلاً لَمّا يقول : أكلاً شديدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وتَأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا قال : الأكل اللمّ : الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل ، فأكل الذي له ، والذي لصاحبه . كانوا لا يُوَرّثون النساء ، ولا يورّثون الصغار ، وقرأ : يَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ : أي لا تورّثونهنّ أيضا أكْلاً لَمّا يأكل ميراثه ، وكلّ شيء لا يسأل عنه ، ولا يدري أحلال أو حرام .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس تَأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا . يقول : سَفّا .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة البستيّ ، عن زُهير ، عن سالم ، قال : قد سمعت بكر بن عبد الله يقول في هذه الاَية : وَتأكُلُونَ التّرَاثَ أكْلاً لَمّا قال : اللمّ : الاعتداء في المِيراث ، يأكل ميراثه وميراث غيره .
و { التراث } : المال الموروث ، أي الذي يُخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله : وُرَاث بواو في أوله بوزن فُعال من مادة وَرث بمعنى مفعول مثل الدُّقاق ، والحُطام ، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تُجاه ، وتُخَمة ، وتُهْمة ، وتُقَاةٍ وأشباهها .
والأكل : مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يُبقي منه شيئاً . وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب .
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه ، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم .
وأشعر قوله : { تأكلون } بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه ، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التُراث دون أن يقال : وتأكلون المال لأن التراث مال ماتَ صاحبه وأكْلُه يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغرٍ أو أنوثة .
واللَّمُّ : الجمع ، ووصْفُ الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة ، أي أكلاً جامعاً مال الوارثين إلى مال الآكِلِ كقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] .