وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر ، وفي طمأنينة وهدوء . فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف ، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين . ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون :
نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون . ستبعثون وأنتم داخرون ، ذلولون ، مستسلمون . غير مستعصين ولا متأبين . . نعم . . ثم يدخل في استعراض ذلك كيف يكون . وإذا هم أمام مشهد من المشاهد المطولة المتعددة الجوانب . المتنوعة الأساليب . المزدحمة بالمناظر الحية والحركات المتتابعة . يلتقي فيها الوصف بالحوار . فتسير على نسق الحكاية فترة ، ثم تنتقل إلى نسق الحوار أخرى . ويتخلل عرض الأحداث والحركات تعليقات وتعقيبات عليها . وبذلك يستكمل المشهد كل سمات الحياة :
{ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } أي : قل لهم يا محمد : نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما ، { وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } أي : حقيرون تحت القدرة العظيمة ، كما قال تعالى { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ إِن هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما هذا الذي جئتنا به إلاّ سحرٌ مبين . يقول : يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ يقولون ، منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم : أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا ، ومصيرنا ترابا وعظاما ، قد ذهب عنها اللحوم أوَ آباؤُنا الاوّلُونَ الذين مضوا من قبلنا ، فبادوا وهلكوا ؟ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء : نعم أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم ، وأنتم داخرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ أو آباؤُنا الأوّلُونَ تكذيبا بالبعث قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ داخِرُونَ .
وقوله : وأنْتُم داخِرُونَ يقول تعالى ذكره : وأنتم صاغرون أشدّ الصّغَر من قولهم : صاغر داخر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْتُمْ داخِرُونَ : أي صاغرون .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأنْتُم دَاخِرُونَ قال : صاغرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} لكفار مكة: {نعم وأنتم داخرون} وأنتم صاغرون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 15]
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي جئتنا به "إلاّ سحرٌ مبين". يقول: يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر. "أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ "يقولون، منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم: أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا، ومصيرنا ترابا وعظاما، قد ذهب عنها اللحوم، "أوَ آباؤُنا الاوّلُونَ" الذين مضوا من قبلنا، فبادوا وهلكوا؟ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: نعم أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم، وأنتم داخرون... وقوله: "وأنْتُم داخِرُونَ" يقول تعالى ذكره: وأنتم صاغرون أشدّ الصّغَر من قولهم: صاغر داخر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره، بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى: {قل نعم} أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه، وذكر حالهم بقوله: {وأنتم داخرون}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قُلْ} تبكيتاً لهم {نعمَ} والخطابُ في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ، والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاَّءُ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر، وفي طمأنينة وهدوء. فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين،ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون: (قل: نعم وأنتم داخرون).. نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون. ستبعثون وأنتم داخرون، ذلولون، مستسلمون غير مستعصين ولا متأبين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بترقب العقاب لا بعث كرامة.
ويردُّ الله عليهم (قُلْ) يعني: قل لهم يا محمد بمِلء فِيكَ (نَعَمْ) يعني: ستُبعثون، والنبي يقولها قَوْلة الواثق؛ لأنه مأمور بها من قِبَل الله القادر على أنْ يبعث الخَلْق {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُم دَاخِرُونَ} يعني: ستُبْعَثون حال كونكم {دَاخِرُونَ} يعني: صاغرين أذلاء خاضعين، جزاءَ الَّلدَد والعناد والاستكبار على قبول الحق في الدنيا.