{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : يعلم السرائر والضمائر ، كما يعلم الظواهر ، { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } [ الرعد : 10 ] ، { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ هود : 5 ] .
وقوله : { وَإنّ رَبّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ } يقول : وإن ربك ليعلم ضمائر صدور خلقه ، ومكنون أنفسهم ، وخفيّ أسرارهم ، وعلانية أمورهم الظاهرة ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وهو محصيها عليهم حتى يجازي جميعهم بالإحسان إحسانا وبالإساءة جزاءها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج وَإنّ رَبّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ قال : السرّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم} يعني: ما تسر قلوبهم، {وما يعلنون} بألسنتهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {وَإنّ رَبّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ} يقول: وإن ربك ليعلم ضمائر صدور خلقه، ومكنون أنفسهم، وخفيّ أسرارهم، وعلانية أمورهم الظاهرة، لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو محصيها عليهم حتى يجازي جميعهم بالإحسان إحسانا وبالإساءة جزاءها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تَلْتَبِسُ على الله أحوالُهم؛ فصادِقٌ يستوي ظاهِرُه وباطنُه يعلمه، ومنافقٌ يخالف باطنُه ظاهرَه يُلَبِّسُ على الناس حالَه.. وهو -سبحانه- يعلمه. وكافِرٌ يستوي في الجَحْدِ سِرُّه وعَلَنُه يعلمه، وهو يجازي كلاً على ما عَلِمَه.. كيف لا.. وهو قَدَّره، وعلى ما عليه قضاه وقَسَمَه؟!.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعني: أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.
ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال: {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} وههنا بحث عقلي، وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم، والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود، وهي أسباب لما يعلنون، وهي أفعال الجوارح، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فهذا هو السبب في ذلك التقديم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإمهال قد يكون من الجهل بذنوب الأعداء، قال نافياً لذلك: {وإن ربك} أي والحال أنه أشار بصفة الربوبية إلى إمهالهم إحساناً إليه وتشريفاً له {ليعلم} أي علماً لا يشبه علمكم بل هو في غاية الكشف لديه دقيقه وجليله {ما تكن} أي تضمر وتستر وتخفي {صدورهم} أي الناس كلهم فضلاً عن قومك {وما يعلنون} أي يظهرون من عداوتك فلا تخشهم، وذكر هذا القسم لأن التصريح أقر للنفس والمقام للأطناب، على أنه ربما كان في الإعلان لغط واختلاط أصوات يكون سبباً للخفاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذا موقع الاستئناف البياني لأن قوله {وإن ربّك لذو فضل على الناس} [النمل: 73] يثير سؤالاً في نفوس المؤمنين أن يقولوا: إن هؤلاء المكذبين قد أضمروا المكر وأعلنوا الاستهزاء فحالهم لا يقتضي إمهالهم؟ فيجاب بأن الذي أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مع علمه بهم لحكمة يعلمها. وفيه إشارة إلى أنهم يكنون أشياء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، منها: أنهم يتربصون بهم الدوائر، وأنهم تخامر نفوسهم خواطر إخراجه وإخراج المؤمنين. وهذا الاستئناف لما كان ذا جهة من معنى وصف الله بإحاطة العلم عطفت جملته على جملة وصف الله بالفضل، فحصل بالعطف غرض ثان مهم، وحصل معنى الاستئناف البياني من مضمون الجملة. وأما التوكيد ب {إن} فهو على نحو توكيد الجملة التي قبله. ولكَ أن تجعله لتنزيل السائل منزلة المتردد وذلك تلويح بالعتاب.