{ 6-8 } { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ }
يقول تعالى : إن هذه سنتنا في الخلق ، أن لا نتركهم هملا ، فكم { أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ } يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له ، ولم يزل التكذيب موجودا في الأمم .
ثم سلى - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن مكرهم فقال : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين } و { كَمْ } هنا خبرية لإِفادة كثرة الأنبياء والمرسلين وهى مفعول مقدم لأرسلنا . وقوله { مِن نَّبِيٍّ } تمييز لها .
أى : ما أكثر الرسل الذين أرسلناهم فى الأمم الأولين لهدايتهم ، فكان موقف أكثر هؤلاء الأمم من رسلهم . يدل على إعراضهم عنهم ، وتكذيبهم لهم ، فاصبر - أيها الرسول الكريم - على أذى قومك ، كما صبر الذين من قبلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ فِي الأوّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَكَمْ أرْسَلْنَا مِنَ نَبِيّ يا محمد في القرون الأوّلين الذين مضوا قبل قرنك الذي بعثت فيه كما أرسلناك في قومك من قريش وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيَ إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول وما كان يأتي قرنا من أولئك القرون وأمة من أولئك الأمم الأوّلين لنا من نبيّ يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق ، إلاّ كان الذين يأتيهم ذلك من تلك الأمم نبيهم الذي أرسله إليهم يستهزئون سخرية منهم بهم كاستهزاء قومك بك يا محمد . يقول : فلا يعظمنّ عليك ما يفعل بك قومك ، ولا يشقنّ عليك ، فإنهم إنما سلكوا في استهزائهم بك مسلك أسلافهم ، ومنهاج أئمتهم الماضين من أهل الكفر بالله .
لما ذكر إسرافهم في الإعراض عن الإصغاء لدعوة القرآن وأعقبه بكلام موجه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم تسلية عما يلاقيه منهم في خلال الإعراض من الأذى والاستهزاء بتذكيره بأن حاله في ذلك حال الرّسل من قبله وسنةُ الله في الأمم ، ووعد للرّسول صلى الله عليه وسلم بالنصر على قومه بتذكيره بسنة الله في الأمم المكذّبة رسلَهم . وجعل للتسلية المقام الأول من هذا الكلام بقرينة العدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة في قوله : { فأهلكنا أشد منهم } كما سيأتي ، ويتضمن ذلك تعريضاً بزجرهم عن إسرافهم في الإعراض عن النظر في القرآن .
فجملة { وكم أرسلنا من نبيء } معطوفة على جملة { إنا جعلناه قرآناً عربياً } [ الزخرف : 3 ] وما بعدها إلى هنا عطفَ القصة على القصة .
و { كَم } اسم دال على عدد كثير مُبهم ، وموقع { كم } نصب بالمفعولية ل { أرسلنا } ، وهو ملتزَم تقديمه لأن أصله اسم استفهام فنقل من الاستفهام إلى الإخبار على سبيل الكناية .
وشاع استعماله في ذلك حتى صار الإخبار بالكثرة معنى من معاني { كَم } . والداعي إلى اجتلاب اسم العدد الكثير أن كثرة وقوع هذا الحكم أدخلُ في زجرهم عن مثله وأدخل في تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم وتحصيل صبره ، لأن كثرة وقوعه تؤذن بأنه سنة لا تتخلف ، وذلك أزجر وأسلى .
و { الأولين } جمع الأوَّل ، وهو هنا مستعمل في معنى الماضين السابقين كقوله تعالى : { ولقد ضَلّ قبلهم أكثر الأوَّلين } [ الصافات : 71 ] فإنّ الذين أهلكوا قد انقرضوا بقطع النظر عمن عسى أن يكون خَلَفَهم من الأمم .
والاستثناء في قوله : { إلا كانوا به يستهزئون } استثناء من أحوال ، أي ما يأتيهم نبيء في حال من أحوالهم إلا يُقارن استهزاؤهم إتيان ذلك النبي إليهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَكَمْ أرْسَلْنَا مِنَ نَبِيّ" يا محمد في القرون الأوّلين الذين مضوا قبل قرنك الذي بعثت فيه كما أرسلناك في قومك من قريش.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر بما يعامله قومه حين ذكر له أن ما أرسل من الرسل الذين كانوا قبله، عاملهم قومهم من الاستهزاء بهم والأذى لهم مثل معاملة قومك إياك، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت على أذى قومك إياك وسوء معاملتهم.
وفيه أنه يرسل الرسول، وإن علم منهم أنهم يكذّبونه، وكذا يُنزل الكتاب، وإن علم منهم أنهم يردّونه، ولا يقبلونه؛ لأنه ليس يُرسل الرسل، ولا يُنزل الكتب لمنفعة نفسه ولا لدفع المضرّة عن نفسه، ولكن إنما يُرسل، ويُنزل لمنفعتهم ولدفع المضرة عن أنفسهم، فسواء عليه إن قبلوه، أو ردّوه، وليس كملوك الأرض إذا أرسلوا رسولا أو كتابا إلى ما يعلمون أنهم يكذّبون رسُلهم، ويردّون كتبهم، يكونون سفهاء لأنهم إنما يُرسِلون لحاجة أنفسهم ولدفع المضرة، فحين لم يحصل غرضهم، بل لحقهم بذلك ضرر وزيادة ضد له واستخفاف لم يكن ذلك حكمة، بل كان سفَها. فأما الله عز وجل إذا لم يرسل، ويُنزل لجرّ النفع ودفع الضرر، بل لإلزام الحجّة وإزالة العُذر ونحو ذلك، فذلك حكمة أيضا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وكم" موضوعة للتكثير في باب الخبر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} الآيات تسلية لمحمد عليه السلام، وذكر أسوة له ووعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب من هو أشد بطشاً. والأولون: هم الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع {كم} نصب بالمفعولية ل {أرسلنا}، وهو ملتزَم تقديمه؛ لأن أصله اسم استفهام، فنقل من الاستفهام إلى الإخبار على سبيل الكناية. وشاع استعماله في ذلك حتى صار الإخبار بالكثرة معنى من معاني {كَم}. والداعي إلى اجتلاب اسم العدد الكثير، أن كثرة وقوع هذا الحكم أدخلُ في زجرهم عن مثله وأدخل في تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم وتحصيل صبره؛ لأن كثرة وقوعه تؤذن بأنه سنة لا تتخلف، وذلك أزجر وأسلى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبداً، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعمُّ عطاؤه كلّ العباد، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة (ولذلك خلقهم)، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً، وينبغي أن لا يفتر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون الحقيقيّون، فإنّ لهذا الإِعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخاً طويلاً...