ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، الدالة على رسالته ، وهو أنه { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } معتدل ، موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته ، وذلك الصراط المستقيم ، مشتمل على أعمال ، وهي الأعمال الصالحة ، المصلحة للقلب والبدن ، والدنيا والآخرة ، والأخلاق الفاضلة ، المزكية للنفس ، المطهرة للقلب ، المنمية للأجر ، فهذا الصراط المستقيم ، الذي هو وصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ووصف دينه الذي جاء به ، فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم ، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام ، على أجل مقسم عليه ، وخبر اللّه وحده كاف ، ولكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه ، من رسالة رسوله ما نبهنا عليه ، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه .
وقوله - تعالى - { على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } خبر ثان لحرف " إن " فى قوله - تعالى - قبل ذلك : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } .
أى : إنك - يا محمد - لمن أنبيائنا المرسلين ، على طريق واضح قويم ، لا اعوجاج فيه ولا اضطراب ، ولا ارتفاع فيه ولا انخفاض ، بل هو فى نهاية الاعتدال والاستقامة .
قال صاحب الكشاف : قوله : { على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } خبر بعد خبر ، أوصلة للمرسلين .
فإن قلت : أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة ، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم ؟
قلت : ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته . وإنما الغرض وصفه ، ووصف ما جاء به من الشريعة ، فجمع بين الوصفين فى نظام واحد ، كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت ، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيم ، على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه - أى : فى التضخيم والتعظيم - .
( إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ) . .
وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول . وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة . فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف ، ولا التواء فيها ولا ميل . الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس . ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة . يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص .
وهي لاستقامتها - بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران . لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا والتصورات والأشكال الجدلية . وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره ، وأعراها عن الشوائب والأخلاط ، وأغناها عن الشرح ، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات ، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات ! يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر ، والأمي والعالم ، وساكن الكوخ وساكن العمارة ؛ ويجد فيها كل حاجته ؛ ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين .
وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود ، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان ، فلا تصدم طبائع الأشياء ، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها ، إنما هي مستقيمة على نهجها ، متناسقة معها ، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه .
وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله ، واصلة إليه موصلة به ، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه ، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه . فهو سالك درباً مستقيماً واصلاً ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم .
والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم . وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق ، وفي التوجيه إليه ، وفي أحكامه الفاصلة في القيم ، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق .
وقوله : عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى ، وهو الإسلام ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ : أي على الإسلام .
وفي قوله : عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وجهان أحدهما : أن يكون معناه : إنك لمن المرسلين على استقامة من الحقّ ، فيكون حينئذٍ على من قوله عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ من صلة الإرسال . والاَخر أن يكون خبرا مبتدأ ، كأنه قيل : إنك لمن المرسلين ، إنك على صراط مستقيم .
وقوله { على صراط مستقيم } يجوز أن تكون جملة في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها في موضع حال من { المرسلين } ، و «الصراط » الطريق ، والمعنى على طريق وهدى ومهيع{[9768]} رشاد .
{ على صراط مستقيم } خبر ثان ل ( إنّ ) ، أو حال من اسم ( إنّ ) . والمقصود منه : الإِيقاظ إلى عظمة شريعته بعد إثبات أنه مرسل كغيره من الرسل .
و { على } للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكُّن كما تقدم في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) . وليس الغرض من الإِخبار به عن المخاطب إفادة كونه على صراط مستقيم لأن ذلك معلوم حصوله من الأخبار من كونه أحد المرسلين . فقد علم أن المراد من المرسلين المرسلون من عند الله ، ولكن الغرض الجمع بين حال الرسول عليه الصلاة والسلام وبين حال دينه ليكون العِلم بأن دينه صراط مستقيم عِلماً مُستقلاً لا ضِمنياً .
والصراط المستقيم : الهدى الموصل إلى الفوز في الآخرة ، وهو الدين الذي بعث به النبي ، والخُلُق الذي لَقنه الله ، شبه بطريق مستقيم لا اعوجاج فيه في أنه موثوق به في الإِيصال إلى المقصود دون أن يتردد السائر فيه .
فالإِسلام فيه الهدى في الحياتين فمتَّبِعه كالسائر في صراط مستقيم لا حيرة في سيره تعتريه حتى يبلغ المكان المراد .