وقوله - سبحانه - : { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بالحق وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
حكاية لما رد به الملائكة على لوط ، لكى يزيلوا ضيقه بهم ، وكراهيته لوجودهم عنده .
وقوله { يمترون } من الامتراء ، وهو الشك الذي يدفع الإِنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق .
وهو - كما يقول الإِمام الفخر الرازى - مأخوذ من قول العرب : " مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها ، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء ، كاللبن الذي يجتذب عند الحلب . يقال : قد مارى فلان فلانا ، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه " .
أى : قال الملائكة للوط لإِدخال الطمأنينة على نفسه : يا لوط نحن ما جئنا لإِزعاجك أو إساءتك ، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك ، يشكون في وقوعه ، وهو العذاب الذي كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا في كفرهم وفجورهم . . .
وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذي لا مرية فيه ولا تردد ، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك ، وإنا لصادقون في كل ما قلناه لك ، وأخبرناك به ، فكن آمنًا مطمئنًا .
فالإضراب في قوله { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ .
. . } إنما هو لإِزالة ما وقر في قلب لوط - عليه السلام - تجاه الملائكة من وساوس وهواجس .
فكأنهم قالوا له : نحن ما جئناك بشئ تكرهه أو تخافه . . وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين .
وعبر عن العذاب بقوله { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } زيادة في إدخال الأنس على نفسه وتحقيقًا لوقوع العذاب بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ مّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما أتى رسلُ الله آل لوط ، أنكرهم لوط فلم يعرفهم وقال لهم : إنّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ : أي نُنْكركم لا نعرفكم . فقالت له الرسل : بل نحن رسل الله جئناك بما كان فيه قومك يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : قالَ إنّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قال : أنكرهم لوط . وقوله : بِمَا كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ قال : بعذاب قوم لوط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قد أجابوه بما يزيل ذلك { إذ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } إضراباً عن قوله : { إنكم قوم منكرون } وإبطالاً لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضرّه .
وعبر عن العذاب ب « ما كانوا فيه يمترون » إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب ، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب ، فعلم أنهم ملائكة .
والمراد بالحق الخبر الحق ، أي الصدق ، ولذلك ذيل بجملة { وإنا لصادقون } .
وقوله : { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون } حكاية لخطاب الملائكة لوطا عليه السلام لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ ، فبِنَا أن نبيّن خصائص هذا النظم العربي :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا بل}... قد {جئناك} يا لوط {بما كانوا فيه يمترون}، يعني: بما كان قومك بالعذاب يمترون، يعنى يشكون في العذاب أنه ليس بنازل بهم في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 61]
فلما أتى رسلُ الله آل لوط، أنكرهم لوط فلم يعرفهم وقال لهم:"إنّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ": أي نُنْكركم لا نعرفكم. فقالت له الرسل: بل نحن رسل الله جئناك بما كان فيه قومك يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون} هذا ليس بجواب لما سبق من قومه من قوله: {قال إنكم قوم منكرون} ولكن قالوا ذلك له، والله أعلم بعد ما كان بين لوط وبين قومه مجادلات ومخاصمات: من ذلك قوله: {هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} {واتقوا الله ولا تخزون} (الحجر: 68 و 69) وغير ذلك من المخاصمات. وقد كان لوط يعدهم العذاب بصنيعهم الذي كانوا يصنعون. ولذلك قالوا له: {فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (الأعراف: 70) فعند ذلك قالوا: {بل جئناك بما كانوا فيه يمترون}. قال بعضهم: بما كانوا فيه يشكون بما كان يعدهم من العذاب. وقال بعضهم: {بما كانوا فيه يمترون} يجادلون، وينازعون. أو يقول: {بل جئناك} بجزاء ما {كانوا فيه يمترون}. ثم امتراؤهم يحتمل مجادلتهم إياه وما كانوا عليه من الريبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون فيه ويكذبونك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن {قالوا بل} أي لسنا منكرين لأنا {جئناك} لنفرج عنك {بما} أي بسبب إيقاع ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {فيه يمترون} بما جرت عادتنا أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا جئناك بعذابهم لإفادة ذلك شيئين: تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام بعد أن كابد منهم كثيرا من الإنكار والتكذيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعبر عن العذاب ب « ما كانوا فيه يمترون» إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب، فعلم أنهم ملائكة. والمراد بالحق الخبر الحق، أي الصدق، ولذلك ذيل بجملة {وإنا لصادقون}.
وهكذا أعلنوا للوط سبب قدومهم إليه؛ كي ينزلوا العقاب بالقوم الذين أرهقوه، وكانوا يشكون في قدرة الحق سبحانه أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي هذا تسريه عنه.