ثم تبدأ السورة الكريمة حملتها على المنافقين فتقول : { بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } والتعبير بقوله : بشر بدل أنذر أو أخبر للتهكم بهم ، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا فى الأخبار السارة ، لأن الإخبار السار يظهر سرورا فى البشرة . فاستعملت البشارة فى مطلق الإِخبار أو فى الإِنذار على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية .
قال الرغب : ويقال : أبشرت الرجل وبشرته أى : أخبرته بأمر سرا بسط بشرة وجهه وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء فى الشجر .
وقوله : { المنافقين } من النفاق وهو أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن .
قالوا : وسمى المنافق منافقا أخذاً من نافقاء اليربوع - وهو حجره فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر ؛ فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله : أنا مؤمن . ويدخل مع الكفار بقوله : أنا كافر .
والمعنى : أنذر يا محمد أولئك المنافقين الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر بالعذاب الأليم ، وسق لهم هذا الإِنذار بلفظ التبشير على سبيل التهكم بهم ، والاستهزاء بعقولهم ، فى مقابل تهكمهم بالإِسلام وأهله وخداعهم للمؤمنين .
ثم قال : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } يعنى : أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم ، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة ، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم ، إنما نحن مستهزئون . أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { وَبَشّرِ المُنافِقِينَ } : أخبر المنافقين ، وقد بينا معنى التبشير فيما مضى بما أغني عن إعادته . { بأنّ لَهُمْ عَذَابا أليما } يعني : بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم ، عذابا أليما ، وهو الموجع ، وذلك عذاب جهنم .
في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين ، كما ترجح آنفاً ، وجاءت البشارة هنا مصرحاً بقيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه ، ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب{[4332]} .
استئناف ابتدائي ناشِىء عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً ، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق ، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضرباً من التهكّم بالإسلام وأهله ، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين ، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال : { بشر المنافقين } ، فإنّ البشارة هي الخبر بما يَفرحَ المخبَر به ، وليس العذاب كذلك ، وللعرب في التهكّم أساليب كقول شَقِيق ابن سُليك الأسدي :
أتاني من أبي أنَسٍ وعيدٌ *** فَسُلىّ لِغَيظَةِ الضّحّاكِ جِسمِي
فإنّك سوف تَحْلُم أو تَناهَى *** إذا ما شِبْت أو شَاب الغراب
نُبِّئْتُ عَمْراً غارزاً رأسَه *** في سِنَةٍ يُوعدِ أخْوَالَهُ
وتلكَ منه غير مأمُونَةٍ *** أنْ يَفعل الشيءَ إذَا قالَهُ
ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم ، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أخبر المنافقين {بأنّ لَهُمْ عَذَابا أليما}: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم، عذابا أليما، وهو الموجع، وذلك عذاب جهنم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
البشارة المطلقة المرسلة لا تكون إلا بالخير خاصة. وأما إذا كانت مقيدة مفسرة فإنها تجوز في الشر كقوله تعالى: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما}...
وقوله تعالى: {بشر المنافقين} يدل على أن الآية الأولى في أهل النفاق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَشّرِ المنافقين} وضع (بشر) مكان: أخبر، تهكماً بهم...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
كان المنافقون يتولون اليهود، فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي ناشئ عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضرباً من التهكّم بالإسلام وأهله، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال: {بشر المنافقين}، فإنّ البشارة هي الخبر بما يَفرحَ المخبَر به، وليس العذاب كذلك...
ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء ومبدع الكون، ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لا يستقرون على حال، وهم قسمان: قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر، إذ إنه مهما يطو اعتقاده في نفسه لابد أن يظهر على لسانه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولتعرفنهم في لحن القول (30)} (محمد).
وهذه الآيات في شأن المنافقين {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما}.
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لا موضع له في قلوبهم وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية، وذلك لأن النفاق قسمان: نفاق خالص وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لا يتصل بالعقيدة بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث "آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر"، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة، وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا
والتعبير بقوله: {بشر المنافقين} فيه نوع مجاز، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته: "وبشرته أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر.. ويقال للخبر السار البشارة والبشرى قال تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (64)} (يونس)".
وقالوا إن التعبير بالبشرى في هذا المقام وهو إنذار المنافقين بالعذاب الأليم فيه نوع تهكم بهم، لأن المنافق فيه طمع وهو يريد النفع الدنيوي، أو المادي فيقال لهم ما تنتظرونه من أمر مبشركم ويرضي مطامعكم هو عذاب شديد. مؤلم أشد الإيلام، فهو ثمرة نفاقكم، فما غرستم من غرس هو شر محض، فلا ينتج إلا شرا.
" بشر المنافقين "معناه: أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب، ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون...