{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ } الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له . { قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة ، فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه ، بل ولا جحده ، فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا ، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل ، الذي لا يأتي به إلا أخبث الخلق وأعظمهم افتراء ، والذي حملهم على ذلك ، طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم .
( ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون ) . .
ولا يختلط الحق بالسحر . فهو واضح بين ، وإنما هي دعوى ، كانوا هم أول من يعرف بطلانها . فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق ؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم ، فيقولون : إنه سحر ، ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد ، يقولون : ( وإنا به كافرون )ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون ؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد . شأن الملأ من كل قوم ، في التغرير بالجماهير ، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم ، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير ، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير !
وَلَمّا جاءَهُمُ الحَقّ يقول جلّ ثناؤه : ولما جاء هؤلاء المشركين القرآنُ من عند الله ، ورسول من الله أرسله إليهم بالدعاء إليه قالُوا هَذَا سِحْرٌ يقول : هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر يسحرنا به ، ليس بوحي من الله وَإنّا بِهِ كافِرُونَ يقول : قالوا : وإنا به جاحدون ، ننكر أن يكون هذا من الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَلَمّا جاءَهُمُ الحَقّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإنّا بِهِ كافِرُونَ قال : هؤلاء قريش قالوا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم : هذا سحر .
تعجيب من حال تغافلهم ، أي قد كان لهم بعض العذر قبل مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم والقرآن لأن للغفلات المتقادمة غشاوة تُصَيِّر الغفلة جهالة ، فكان الشأن أن يستيقظوا لمَّا جاءهم الحق ورسول مبين فيتذكروا كلمة أبيهم إبراهيم ، ولكنهم لما جاءهم الحق قالوا : هذا سِحر ، أي قالوا للرّسول : هذا ساحر ، فازدادوا رَيْناً على رَيْن .
فالخبر مستعمل في التعجيب لا في إفادة صدور هذا القول منهم لأن ذلك معلوم لهم وللمسلمين . وفي تعقيب الغاية بهذا الكلام إيذان بأن تمتيعهم أصبح على وشك الانتهاء .
فجملة { ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر } معطوفة على جملة { حتى جاءهم الحق } [ الزخرف : 29 ] فإن { لما } توقيتية فهي في قوة { حتى الغائيَّة كأنه قيل : متعت هؤلاء وآباءهم ، فلما جاءهم الحق عقِبَ ذلك التمتيع لم يستفيقوا من غفلتهم وقالوا : هذا سحر ، أي كانوا قبل مجيء الحق مشركين عن غفلة وتساهل ، فلما جاءهم الحق صاروا مشركين عن عناد ومكابرة .
وجملة { وإنا به كافرون } مقول ثاننٍ ، أي قالوا : هذا سحر فلا نلتفت إليه وقالوا إنا به ، أي بالقرآن ، كافرون ، أي سواء كان سحراً أم غيره ، أي فرضوا أنه سحر ثم ارتقوا فقالوا إنّا به كافرون ، أي كافرون بأنه من عند الله سواء كان سحراً أم شعراً أم أساطيرَ الأولين . ولهذا المعنى أكدوا الخبر بحرف التأكيد ليُؤْيسوا الرّسول صلى الله عليه وسلم من إيمانهم به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما جاءهم الحق} يعني القرآن.
{قالوا هذا} القرآن {سحر وإنا به كافرون}، لا نؤمن به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلَمّا جاءَهُمُ الحَقّ" يقول جلّ ثناؤه: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآنُ من عند الله، ورسول من الله أرسله إليهم بالدعاء إليه.
"قالُوا هَذَا سِحْرٌ": هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر يسحرنا به، ليس بوحي من الله.
"وَإنّا بِهِ كافِرُونَ": قالوا: وإنا به جاحدون، ننكر أن يكون هذا من الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لم تزل تلك عادة رؤساء الكفرة والأشراف منهم المتكلم بهذه الكلمة عند نزول الآيات والمعجزات، يريدون بذلك التمويه على أتباعهم والتلبيس...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما كان من نسب الحق والدين إلى السحر كافرا بالله؛ لأنه بمنزلة من عرف نعمة الله وجحدها في عظيم الجرم، فسمي باسمه ليدل على ذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال ولما جاءهم الحق جاؤوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها: وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول، ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إنما جعلوه بزعمهم سحراً من حيث كان عندهم يفرق بين المرء وولده وزوجه، فجعلوه لذلك كالسحر، ولم ينظروا إلى الفرق في أن المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين، والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في ذهنه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة، فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل ولا جحده، فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل، الذي لا يأتي به إلا أخبث الخلق وأعظمهم افتراء، والذي حملهم على ذلك، طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا يختلط الحق بالسحر. فهو واضح بين، وإنما هي دعوى، كانوا هم أول من يعرف بطلانها. فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم، فيقولون: إنه سحر، ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد يقولون: (وإنا به كافرون) ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد. شأن الملأ من كل قوم، في التغرير بالجماهير خيفة أن يفلتوا من نفوذهم، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعجيب من حال تغافلهم، أي قد كان لهم بعض العذر قبل مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ لأن للغفلات المتقادمة غشاوة تُصَيِّر الغفلة جهالة، فكان الشأن أن يستيقظوا لمَّا جاءهم الحق ورسول مبين فيتذكروا كلمة أبيهم إبراهيم، ولكنهم لما جاءهم الحق قالوا: هذا سِحر، أي قالوا للرّسول: هذا ساحر، فازدادوا رَيْناً على رَيْن...
هذا سحر فلا نلتفت إليه وقالوا إنا به، أي بالقرآن، كافرون، أي سواء كان سحراً أم غيره، أي فرضوا أنه سحر ثم ارتقوا فقالوا إنّا به كافرون، أي كافرون بأنه من عند الله سواء كان سحراً أم شعراً أم أساطيرَ الأولين. ولهذا المعنى أكدوا الخبر بحرف التأكيد ليُؤْيسوا الرّسول صلى الله عليه وسلم من إيمانهم به...