{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون } أى : قال لهم - أيضا - فى ختام نصحة لهم : إنى لن أتراجع عن دعوتكم إلى الحق مهما وضعتم فى طريقى من عقبات وعليكم أن تؤمنوا بى ، فإن لم تؤمنوا بى . فكونوا بمعزل عن بحيث تتركونى وشأنى حتى أبلغ رسالة ربى ، فإنه لا موالاة ولا صلة بينى وبينكم ، ما دمتم مصرين على كفركم .
فأنت ترى أن موسى - عليه السلام - قد طلب من فرعون وقومه الاستجابة بدعوته ، ونهاهم عن التكبر والغررو ، وبين لهم أنه رسول أمين على وحى الله - تعالى - ، وأنه معتصم بربه من كيدهم ، وأن عليهم إذا لم يؤمنوا به أن يتركوه وشأنه ، لكى يبلغ رسالة به ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر .
فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه . وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة .
ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة ، فهو يخشى الحق أن يظل طليقاً ، يحاول أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء . ومن ثم يحارب الحق بالبطش . ولا يسالمه أبداً . فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستولي في كل يوم على النفوس والقلوب . ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح !
وقوله : وَإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُون يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى عليه السلام لفرعون وقومه : وإن أنتم أيها القوم لم تصدّقوني على ما جئتكم به من عند ربي ، فاعتزلون : يقول : فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لي . فاعْتَزِلُونِ : أي فخلّوا سبيلي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}: وإن لم تصدقوني...
{فاعتزلون} فدعا موسى ربه في يونس فقال: {ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} [يونس:86]، يعني نجني وبني إسرائيل، وأرسل العذاب على أهل مصر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى عليه السلام لفرعون وقومه: وإن أنتم أيها القوم لم تصدّقوني على ما جئتكم به من عند ربي.
"فاعتزلون": فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن لم تصدّقوني في ما أدعوكم إليه وآمركم به فاتركوني، فأصدّق وأؤمن به، ولا يضرّكم تصديقي وإيماني.
وقال بعضهم: أي دعوني خفّاقا جانبا لا عليّ ولا لي.
وقال بعضهم: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} ولا تقبلوني...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاعتزلون} يريد: إن لم يؤمن لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا، فتنحوا عني واقطعوا أسباب الوصلة عني، أي: فخلوني كفافاً لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم؛ فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فاعتزلون} أي وإن لم تعتزلوني هلكتم، ولا تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم سوء العذاب، وما قتلتم أبناءهم إلا من أجلي، فرباني على كف من ضاقت عليه الأرض بسببي وسفك الدماء في شأني، ومنعه الله من أن يصل إليّ منه سوء قبل أن أعوذ به، فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني، واستجرت به فأجارني.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة، ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة، فهو يخشى الحق أن يظل طليقاً، يحاول أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء. ومن ثم يحارب الحق بالبطش. ولا يسالمه أبداً. فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستولي في كل يوم على النفوس والقلوب. ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جيء في شرط {إن لم تؤمنوا لي} بحرف {إنْ} التي شأنها أن تستعمل في الشرط غير المتيقّن لأن عدم الإيمان به بعد دلالة المعجزة على صدقه من شأنه أن يكون غير واقع؛ فيفرضَ عدمُه كما يُفرض المحال، ولعله قال ذلك قبل أن يعلمه الله بإخراج بني إسرائيل من مصر، أو أراد: فاعتزلوني زمناً، يعني إلى أن يعيّن له الله زمن الخروج.
وعدّي {تؤمنوا} باللام لأنه يقال: آمَن به وآمن لَه، قال تعالى: {فآمن له لوطٌ} [العنكبوت: 26]، وأصل هذه اللام لام العلة على تضمين فعل الإيمان معنى الركون.
وقد جاء ترتيب فواصل هذا الخطاب على مراعاة ما يبدو من فرعون وقومه عند إلقاء موسى دعوته عليهم؛ إذْ ابتدأ بإبلاغ ما أرسل به إليهم فآنس منهم التعجب والتردد فقال: {إني لكم رسول أمين} فرأى منهم الصلف والأنفة فقال: {وأن لا تعلوا على الله} فلم يرعَوُوا فقال: {إني آتيكم بسلطان مبين}، فلاحت عليهم علامات إضمار السوء له فقال: {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}، فكان هذا الترتيب بين الجُمل مغنياً عن ذكر ما أجابوا به على أبدع إيجاز.