وقوله : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } تأكيد لتوبيخهم وتأنيبهم بعد أن نزل بهم العذاب ، وهو معطوف على لفظ " قيل " المقدر قبل لفظ { الآن } .
أى : وقيل لهم : الآن آمنتم بأن العذاب حقيقة بعد أن كنتم به تستعجلون ؟ ثم قيل لهؤلاء الظالمين الذين أصروا على الكفر واقتراف المنكرات : ذوقوا عذاب الخلد أي العذاب الباقي الدائم ، إذ الخلد والخلود مصدر خلد الشيء إذا بقي على حالة واحدة لا يتغير .
والاستفهام في قوله : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } للنفي والإِنكار . أي لا تجزون إلابالجزاء المناسب لما كنتم تكسبونه في الدنيا من كفر بالحق ، وإيذاء للدعاة إليه ، وتكذيب بوحي الله - تعالى - .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثُمّ قِيلَ للّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بكفرهم بالله : ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ تجرّعوا عَذَابَ اللّهِ الدّائمِ لكم أبدا ، الذي لا فناء له ولا زوال . هَلْ تُجْزَوْنَ إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يقول : يقال لهم : فانظروا هَلْ تُجْزَوْنَ أي هل تثابون إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ؟ يقول : إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله .
معطوفة على جملة : { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً } [ يونس : 50 ] الآية . و ( ثم ) للتراخي الرتبي ، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله : { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً } [ يونس : 50 ] فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا ، فذلك موقع عطف جملته بحرف ( ثم ) .
وصيغة المضي في قوله : { قيل للذين ظلموا } مستعملة في معنى المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه مثل { أتَى أمرُ الله } [ النحل : 1 . ]
والذين ظلموا هم القائلون { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] . وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك . ومعنى ظلموا : أشركوا .
والذوق : مستعمل في الإحساس ، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق .
والاستفهام في { هل تجزون } إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك جاء بعده الاستثناء { إلا بما كنتم تكسبون } .
وجملة : { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } استئناف بياني لأن جملة { ذوقوا عذاب الخلد } تثير سؤالاً في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ثُمّ قِيلَ للّذِينَ ظَلَمُوا" أنفسهم بكفرهم بالله: "ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ": تجرّعوا عَذَابَ اللّهِ الدّائمِ لكم أبدا، الذي لا فناء له ولا زوال. "هَلْ تُجْزَوْنَ إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ "يقول: يقال لهم: فانظروا "هَلْ تُجْزَوْنَ" أي هل تثابون إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟ يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...و "قيل "لهم بعد ذلك هذا القول على وجه التوبيخ والتقريع، لأنها ليست حال استدراك لما فات. والمعنى أنه يقال لهؤلاء الذين آمنوا حين نزول العذاب بهم -وقيل لهم آلآن وقد استعجلتم "ذوقوا عذاب الخلد" يعني الدائم. ويقال لهم "هل تجزون" بهذا العقاب إلا بما كنتم تكسبون من المعاصي. والذوق: طلب الطعم بالفم في الابتداء، شبهوا بالذائق لأنه أشد إحساسا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هل تجزون} توقيف وتوبيخ، ونصت هذه الآية على أن الجزاء في الآخرة، هو على تكسب العبد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال: {ثم قيل} أي من أيّ قائل كان استهانة {للذين ظلموا} أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه: {ذوقوا عذاب الخلد} فالإتيان ب "ثم "إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين {هل تجزون} بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وكان المعنى: بشيء، استثنى منه فقال: {إلا بما كنتم} أي بجبلاتكم {تكسبون} أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر ولو طال المدى لا تنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} قيل: هذه معطوفة على قيل المقدرة قبل (آلآن وقد كنتم به تستعجلون). أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد، وما يترتب عليه من الفساد والضلال البعيد {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} الخلد كالخلود مصدر خلد الشيء إذا بقي على حالة واحدة لا يتغير، وخلد الشخص في المكان إذا طال مكثه فيه، لا يرحل ولا هو بصدد التحول عنه. وظاهر إضافة العذاب إلى الخلد أن المراد به البقاء على حالة واحدة مؤلمة، ويحتمل إرادة العذاب الخالد الدائم، وهو الموافق للآيات الكثيرة المطلقة في الأكثر والمقيدة بمشيئة الله تعالى في سورة الأنعام [الآية: 128]، وقد تقدم تفسيرها، وفي سورة هود سيأتي.
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبونه باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض، والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه، وليس فيه شيء من الظلم، لأنه أثر لازم لتدسية النفس وإفسادها بالظلم، حتى لم تعد أهلا لجوار الرب عز وجل وليس عذابا أنفا من خارجها، وتقدم بيانه في تفسير قوله تعالى: {سيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 139].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معطوفة على جملة: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً}. و (ثم) للتراخي الرتبي، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً} فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا، فذلك موقع عطف جملته بحرف (ثم).
وصيغة المضي في قوله: {قيل للذين ظلموا} مستعملة في معنى المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه مثل {أتَى أمرُ الله} [النحل: 1.]
والذين ظلموا هم القائلون {متى هذا الوعد} [يونس: 48]. وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك. ومعنى ظلموا: أشركوا.
والذوق: مستعمل في الإحساس، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق.
والاستفهام في {هل تجزون} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء بعده الاستثناء {إلا بما كنتم تكسبون}.
وجملة: {هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} استئناف بياني لأن جملة {ذوقوا عذاب الخلد} تثير سؤالاً في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
توكّد الآيات أعلاه مرّة أُخرى على هذه الحقيقة، وهي أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ، وسبب ذلك واضح، لأنّ التوبة في مثل هذه الأحوال تكون عن إكراه وإجبار، ومثل هذه التوبة لا قيمة لها.