ثم فصل - سبحانه - ما كان منه صلى الله عليه وسلم بالنسبة لهذه القصة فقال : { أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى . وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى . وَهُوَ يخشى . فَأَنتَ عَنْهُ تلهى } أى : أما من استغنى عن الإِيمان ، وعن إرشادك - أيها الرسول الكريم - واعتبر نفسه فى غنى عن هديك . .
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته ؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : أما من استغنى ، فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى ? ! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ? ! . . أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة . . أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتجهد لهدايته ، وتتعرض له وهو عنك معرض !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّا مَنِ اسْتَغْنَىَ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدّىَ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزّكّىَ * وَأَمّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىَ * وَهُوَ يَخْشَىَ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّىَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أما من استغنى بماله ، فأنت له تتعرّض ، رجاء أن يُسلِم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان أمّا مَنِ اسْتَغْنَى فأنْتَ لَهُ تَصَدّى قال : نزلت في العباس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أمّا مَنِ اسْتَغْنَى قال : عتبة بن ربيعة وشبية بن ربيعة وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزّكّى يقول : وأيّ شيء عليك أن لا يتطهّر من كفره فيُسلم ؟ وأمّا مَنْ جاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى يقول : وأما هذا الأعمى الذي جاءك سعيا ، وهو يخشى الله ويتقيه ، فأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى يقول : فأنت عنه تُعْرِض ، وَتَشاغَلُ عنه بغيره وتَغَافَل .
تقدم الكلام على { أمَّا } في سورة النازعات أنها بمعنى : مهما يكن شيء ، فقوله : { أما من استغنى } تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدّى ، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له ، والمقصود : أنت تحرص على التصدي له ، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقاً على وجود من استغنى وملازماً له ملازمة التعليققِ الشرطي على طريقة المبالغة .
والاستغناء : عدّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدل عليه السياق قول ، أو فعل أو علم ، فالسين والتاء للحسبان ، أي حسب نفسه غنياً ، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة .
فالمراد ب { من استغنى } هنا : مَن عدّ نفسه غنياً عَن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له : « هل ترى بما أقول بَأساً ، بقوله : لا والدماء . . . » كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غيرُ محتاج إليه .
وليس المراد ب { من استغنى } من استغنى بالمال إذ ليس المقام في إيثار صاحب مال على فقير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أما من استغنى بماله، فأنت له تتعرّض، رجاء أن يُسلِم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي بما اختاره عما جئت به من الدين، واستغنى بالذي زين له الشيطان عما جئت به، أو يكون على الغنى المعروف، لأن الذين أقبل عليهم بوجهه كانوا أهل ثروة وغنى، فأقبل عليهم رجاء أن يسلموا، فيتبعهم أتباعهم في الإسلام، إذ كانوا من رؤسائهم وأجلتهم...
قد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد، وهما في العبودية سيان، ولكن في الحال مختلفان، فقال: {وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى} وقال في الآخر: {أما من استغنى فأنت له تصدى}. (نفسه: 34/360)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام...
قال عطاء: يريد عن الإيمان، وقال الكلبي: استغنى عن الله، وقال بعضهم: استغنى أثرى وهو فاسد ههنا، لأن إقبال النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى، فأنت تقبل عليه، ولأنه قال: {وأما من جاءك يسعى وهو يخشى} ولم يقل: وهو فقير عديم، ومن قال: أما من استغنى بماله فهو صحيح، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن، بماله من المال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر العبوس والتولي عنه فأفهما ضدهما لمن كان مقبلاً عليهم، بين ذلك فقال: {أما من استغنى} أي طلب الغنى وهو المال والثروة فوجده وإن لم يخش ولم يجئ إليك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب: أما من استغنى، فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى؟! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟!.. أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة.. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تقدم الكلام على {أمَّا} في سورة النازعات أنها بمعنى: مهما يكن شيء، فقوله: {أما من استغنى} تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدّى، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له، والمقصود: أنت تحرص على التصدي له، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقاً على وجود من استغنى وملازماً له ملازمة التعليقِ الشرطي على طريقة المبالغة. والاستغناء: عدّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدل عليه السياق قول، أو فعل أو علم، فالسين والتاء للحسبان، أي حسب نفسه غنياً، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة. فالمراد ب {من استغنى} هنا: مَن عدّ نفسه غنياً عَن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له: هل ترى بما أقول بَأساً، بقوله: لا والدماء... كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غيرُ محتاج إليه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلم تكن لديه أيّة ميزةٍ إلاّ غناه، وكان يعتبر أن الغنى يمثِّل عمق القيمة التي تمنحه موقعاً اجتماعياً متقدّماً، وتغريه دائماً بأن يضع كل فكره وعمله وعلاقاته بالناس في خدمة هذا الغنى، حتى أن انتماءه إلى أيّ دينٍ أو مذهبٍ يتحرك في جهة الدين الذي يخدم مصلحته المادية، والمذهب الذي يدعم ثروته...