المراد بالذاريات : الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه .
فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . يقال : ذّرّت الرياح التراب تذروه ذَرْواً ، وتَذْرِيه ذَرْياً - من بابى عدا ورمى - إذا طيرته وفرقته .
ومنه قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . . } أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر .
والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا .
والمراد بالحاملات : السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر .
والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به .
أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء .
وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } وقوله - سبحانه - : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال }
والمراد بالجاريات : السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد .
وقوله : { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذات يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها .
ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى : فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر .
ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام }
والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم . . . على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة .
و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته .
وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - : لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - : { والذاريات ذَرْواً } قال : الريح . { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن ، { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .
وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب ، وعن ابن عباس .
ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح .
قال الإمام الرازى : هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات : هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء . . . والجاريات : هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار .
ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده .
وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان .
قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر .
وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره .
قال شعبة{[27391]} بن الحجاج ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطُّفَيْل ، سمع عليًا . وثبت أيضًا من غير وجه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة عن رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك . فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال : الريح [ قال ] {[27392]} : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال : السحاب . [ قال ]{[27393]} : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال : السفن . [ قال ] {[27394]} : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال : الملائكة {[27395]} .
وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال : هي الرياح ، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة ، وجعل في بيت ، فلما برأ {[27396]} [ دعا به و ] {[27397]} ضربه مائة أخرى ، وحمله على قَتَب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته . فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : ما إخاله إلا صدق ، فخل بينه وبين مجالسة الناس .
قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث {[27398]} .
قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر {[27399]} ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة {[27400]} . وهكذا فسرها ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد . ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك .
وقد قيل : إن المراد بالذاريات : الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا : السحاب كما تقدم ؛ لأنها تحمل الماء ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ *** لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا {[27401]}
فأما الجاريات يسرًا ، فالمشهور عن الجمهور - كما تقدم - : أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا . وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا{[27402]} في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية . وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ }
وقوله : فالجارِياتِ يُسْرا يقول : فالسفن التي تجري في البحار سهلاً يسيرا فالمُقَسّماتِ أمْرا يقول : فالملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، قال : قام رجل إلى عليّ رضي الله عنه ، فقال : ما الجاريات يسرا ؟ قال : هي السفن قال : فما الحاملات وقرا ؟ قال : هي السحاب قال : فما المقسمات أمرا ؟ قال : هم الملائكة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سِماك ، قال : سمعت خالد بن عرعرة ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه . وقيل له : ما الحاملات وقرا ؟ قال : هي السحاب قال : فما الجاريات يُسرا ؟ قال : هي السفن قال : فما المقسّمات أمرا ؟ قال : هي الملائكة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن عليّ بنحوه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبيد الله الهلالي ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : حدثنا موسى الزمعي ، قال : ثني أبو الحُوَيرث ، عن محمد بن جُبَير بن مطعم أخبره ، قال : سمعت عليا يخطب الناس ، فقام عبد الله بن الكوّاء فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى : فالْحامِلاتِ وِقْرا قال : هي السحاب فالجارِياتِ يُسْرا قال : هي السفن فالمُقَسّمات أمْرا قال : الملائكة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : سمعت أبا الطفيل ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، قال : قال ابن الكوّاء لعليّ ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن وهب بن عبد الله ، عن أبي الطّفيل ، قال : شهدت عليا رضي الله عنه ، وقام إليه ابن الكوّاء ، فذكر نحوه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن ربيعة ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجليّ ، عن أبي الصهباء البكريّ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن رجلاً سأل عليا ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، عن عليّ مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، قال : سُئل فذكر مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فالْحامِلاتِ وِقْرا قال : السحاب ، قوله : فالمُقَسّماتِ أمْرا قال : الملائكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فالْحامِلاتِ وِقْرا قال : السحاب تحمل المطر ، فالجارِياتِ يُسْرا قال : السفن فالمُقَسّماتِ أمْرا قال : الملائكة ينزلها بأمره على من يشاء .
و{ الجاريات يُسْراً } : الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلاً بماء المطر ، فالتقدير : فالجاري بذلك الوقر يُسراً .
ومعنى اليسر : اللِين والهُون ، أي الجاريات جرياً ليّناً هيّناً شأن السير بالثقل ، كما قال الأعشى :
كأنّ مِشيتها من بيت جارتها *** مَشيُ السحابة لا رَيثٌ ولا عَجَل
ف { يُسراً } وصف لمصدر محذوف نصب على النيابة عن المفعول المطلق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فالجاريات يسرا} يعني السفن مرت مرا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فالجارِياتِ يُسْرا يقول: فالسفن التي تجري في البحار سهلاً يسيرا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت.
الثاني: أنه السحاب، وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان:
أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد.
{فالجاريات يسرا} إشارة إلى الجامع من الماء، فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
"فالْجَارِيَاتِ يُسْرًا" النجوم، التي تجري على وجه اليسر والسهولة، فتتزين بها السماوات، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وينتفع بالاعتبار بها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {الجاريات يُسْراً}: الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلاً بماء المطر، فالتقدير: فالجاري بذلك الوقر يُسراً.
ومعنى اليسر: اللِين والهُون، أي الجاريات جرياً ليّناً هيّناً شأن السير بالثقل.