ثم أمرهم - سبحانه - بمراقبته وبالخوف منه ، بعد أن نهاهم عن التشبه ببنى إسرائيل فى إيذائهم لنبيهم فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } .
والقول السديد : هو القول الصادق الصحيح الخالى من كل انحراف عن الحق والصواب ، مأخوذ من قولك : سدد فلان سهمه يسدده ، إذا وجهه بإحكام إلى المرمى الذى يقصده فأصابه . ومنه قولهم : سهم قاصد . إذا أصاب الهدف .
أى : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه فى كل ما تأتون وما تذرون ، وفى كل ما تقولون وما تفعلون ، وقولوا قولا كله الصدق والصواب .
فإنكم إن فعلتم ذلك { يُصْلِحْ } الله - تعالى - { لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، اتقوا الله أن تعصوه ، فتستحقوا بذلك عقوبته .
وقوله : وَقولوا قَوْلاً سَدِيدا يقول : قولوا في رسول الله والمؤمنين قولاً قاصدا غير جائز ، حقا غير باطل ، كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يقول : سدادا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عنبسة ، عن الكلبي وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا قال : صدقا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : اتّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا أي عدلاً ، قال قتادة : يعني به في منطقه وفي عمله كله ، والسديد : الصدق .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قول الله : وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا قولوا : لا إله إلا الله .
ثم وصى عز وجل المؤمنين بالقول السداد ، وذلك يعم جميع الخيرات ، وقال عكرمة : أراد لا إله إلاَّ الله ، و «السداد{[9588]} » يعم جميع هذا وإن كان ظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافاً للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين .
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم ، وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المنكر التلبّسُ بالمحامد ، والتقوى جماع الخير في العمل والقول . والقول السديد مبثّ الفضائل .
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإِصغاء إليه . ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإِيماء يقتضي ما سيؤمرون به . ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون ، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإِيمان .
والقول : الكلام الذي يصدر من فم الإِنسان يعبر عما في نفسه . والسديد : الذي يوافق السداد . والسداد : الصواب والحقُ ومنه تسديد السهم نحو الرمية ، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها ، فشمل القولُ السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبّه : إني أحبك .
والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر . وفي الحديث : « وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم » ، وفي الحديث الآخر : « رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم » ، وفي الحديث الآخر : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » .
ويشمل القولُ السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء ، وما هو تبليغ لإِرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء . فقراءة القرآن على الناس من القول السديد ، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد . وفي الحديث : « نضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها » وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة الفقه . ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح . ومن القول السديد الأذان والإِقامةُ قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } في سورة فاطر [ 10 ] . فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها ، وبالقول السيّئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً . والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولما في التقوى والقولِ السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإِصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب . وهو نشر على عكس اللف ، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد .
وغفرانُ الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة ، والتحولُ عن المعاصي بعدَ الهمّ بها ضرب من مغفرتها .
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كان عائدين على الذين آمنوا كانا عامَّيْن لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولاً سديداً أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين ، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولاً سديداً والعاملين به من سامعيه ، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قولَ غيره . وفي الحديث : « فَرَّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » ، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول ، وكذلك التقوى تكون سبباً لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسياً أو حياء فتتعطل بعض المعاصي ، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر .
وذكر { لكم } مع فعلي { يصلح -ويَغفر } للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .
وجملة { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } عطف على جملة { يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم } أي وتفوزوا فوزاً عظيماً إذا أطعتم الله بامتثال أمره . وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإِفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل . وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجملة واحدة .