كما حكى القرآن عنه - : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً }
والمراد بأنبتكم : أنشأكم وأوجدكم ، فاستعير الإِنبات للإِنشاء للمشابهة بين إنبات النبات ، وإنشاء الإنسان ، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشئ بقدرته - تعالى - .
والمراد بأنبتكم : أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم ، فأنتم فروع عنه . و { نَبَاتاً } مصدر لأنبت على حذف الزوائد ، فهو مفعول مطلق لأنبتكم ، جئ به للتوكيد ، ومصدره القياسى " إنباتا " واختير " نباتا " لأنه أخف .
قال الجمل : قوله : نباتا ، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد . ويسمى اسم مصدر ، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا . أى : فنبتّم نباتا - فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر .
أى : والله - تعالى - هو الذى أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه ، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم ، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء .
وعبر - سبحانه - عن الإِنشاء بالإِنبات ، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإِنسان مخلوق محدث ، وأنه مثل النبات يحصد مثل يعود إلى الحياة مرة أخرى .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " استعير الإِنبات للإِنشاء كما يقال : زرعك الله للخير . وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات " .
ثم ختم نوح - عليه السلام - إرشاداته لقومه ، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التى يعيشون عليها ، فقال : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً . والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً . لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }
أى : والله - تعالى - وحده هو الذى جعل لكم - بفضله ومنته - الأرض مبسوطة ، حيث تتقلبون عليها كما يتقلب النائم على البساط .
وجعلها لكم كذلك { فِجَاجاً } أى : متسعة جمع فج وهو الطريق الواسع .
وقوله : { بِسَاطاً } تشبيه بليغ . أى : جعلها لكم كالبساط ، وهذا لا يتنافى مع كون الأرض كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا ، كانت القطعة منها كالسطح والبساط فى إمكان الانتفاع بها ، والتقلب على أرجائها .
وهكذا نرى أن نوحا - عليه السلام - قد سلك مع قومه مسالك متعددة لإِقناعهم بصحة ما يدعوهم إليه ، ولحملهم على طاعته ، والإِيمان بصدق رسالته .
لقد دعاهم بالليل والنهار ، وفى السر وفى العلانية ، وبين لهم أن طاعتهم لله - تعالى - تؤدى إلى إمدادهم بالأموال والأولاد ، والجنات والأنهاهر ووبخهم على عدم خشيتهم من الله - تعالى - وذكرهم بأطوار خلقهم ، ولفت أنظارهم إلى بديع صنعه - سبحانه - فى خلق السموات والشمس والقمر ، ونبههم إلى نشأتهم من الأرض ، وعودتهم إليها ، وإخراجهم منها للحساب والجزاء ، وأرشدهم إلى نعم الله - تعالى - فى جعل الأرض مبسوطة لهم .
وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم : ( والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) . .
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة ، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره . فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة - حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا ، كما جعل في سهولها من باب أولى . وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون ؛ ويبتغون من فضل الله ، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق .
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة ، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض وتيسر لهم الحياة فيها . وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاق بعيدة .
هكذا سلك نوح - أو حاول أن يسلك - إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاما . ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة . ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية ! فماذا كان بعد كل هذا البيان ?
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطاً * لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً * قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً * وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبّاراً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه ، مذكّرهم نِعَم ربه : وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطا تستقرّون عليها وتمتهدونها .
هذا استدلال وامتنان ، ولذلك عُلق بفعل { جعل } مجرورٌ بلام التعليل وهو { لكم } أي لأجلكم .
والبساط : ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو زربية فالإِخبار عن الأرض ببساط تشبيه بليغ ، أي كالبساط ، ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزائه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يُقِضُّ جنوب المضطجعين ، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كُرَوي ، وقد نبه على ذلك بالعلةِ الباعثة في قوله : { لكم } ، والعلةِ الغائبة في قوله : { لتسلكوا منها سبلاً } وحصل من مجموع العلتين الإِشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع ، وإلى نعمة خاصة وهي السير في الأرض ، وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه، مذكّرهم نِعَم ربه:"وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطا "تستقرّون عليها وتمتهدونها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ولو لم يجعلها كذلك لم يتوصلوا إلى حوائجهم ولا الانتفاع بها، ففي ذكر هذا تذكير بالله تعالى بما عليهم من عظيم المنة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعلها بساطاً مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بساطاً} يقتضي ظاهره أن الأرض بسيطة كروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في نفسه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والله} أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام {جعل لكم} أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم {الأرض بساطاً} أي سهل عليكم التصرف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في البساط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم: (والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا).. وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة -حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون؛ ويبتغون من فضل الله، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق. وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض وتيسر لهم الحياة فيها. وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاق بعيدة. هكذا سلك نوح- أو حاول أن يسلك -إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب، ومتنوع الوسائل في دأب طويل، وفي صبر جميل، وفي جهد نبيل، ألف سنة إلا خمسين عاما. ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم، يقدم حسابه، ويبث شكواه، في هذا البيان المفصل، وفي هذه اللهجة المؤثرة. ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والبساط: ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو زربية، فالإِخبار عن الأرض ببساط تشبيه بليغ، أي كالبساط، ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزائه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يُقِضُّ جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كُرَوي، وقد نبه على ذلك بالعلةِ الباعثة في قوله: {لكم}، والعلةِ الغائبة في قوله: {لتسلكوا منها سبلاً} وحصل من مجموع العلتين الإِشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع، وإلى نعمة خاصة وهي السير في الأرض، وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.