ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك - ما يسلى النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين ، بأن بين له سوء عاقبيتهم يوم القيامة ، وبأن أمره بالبصر على كيدهم ، وبشره بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه . . فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ . . . } .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله . . . } للتعجيب من أحوال هؤلاء المشركين . حيث أنكروا الحق الواضح وانساقوا وراء الأوهام والأباطيل .
والمعنى : انظر - أيها الرسول الكريم - إلى أحوال المشركين ، وتعجب من سلوكهم الذميم ، حيث جادلوا فى الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته بدون علم أو حجة .
وقوله : { أنى يُصْرَفُونَ } أى : انظر كيف يصرفون عن آيات الله الموجبة للإِيمان بها . إلى الجحود والتكذيب والجدال بالباطل فيها ؟
لقد كان من المنتظر منهم أن يهتدوا إلى الحق بعد أن وصل إليهم . . ولكنهم عموا وصموا عنه . لانطماس بصائرهم ، واستحواذ الشيطان عليهم .
وأمام نشأة الحياة البشرية . وفي ظل مشهد الحياة والموت . وحقيقة الإنشاء والإبداع . . يبدو الجدال في آيات الله مستغرباً مستنكراً ؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجياً نكيراً . ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة :
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ? الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون . إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ، في الحميم ثم في النار يسجرون . ثم قيل لهم : أين ما كنتم تشركون من دون الله ? قالوا : ضلوا عنا ، بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً . كذلك يضل الله الكافرين . ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها . فبئس مثوى المتكبرين . .
إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله ، في ظل استعراض هذه الآيات . مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك !
وقوله : ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنّى يُصْرَفُونَ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك ، الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته أنّى يُصْرَفُونَ يقول : أيّ وجه يصرفون عن الحق ، ويعدلون عن الرشد ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنّى يُصْرَفُونَ : أنى يكذبون ويعدلون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أنّى يُصْرَفُونَ قال : يُصْرَفُونَ عن الحقّ .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عنى بها أهل القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن محمد بن سيرين ، قال : إن لم تكن هذه الاَية نزلت في القدرية ، فإني لا أدري فيمن نزلت : ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ إلى قوله : لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئا كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكافِرِينَ .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن سيرين ، قال : إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا علم لنا به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي ، عن أبي قبيل ، قال : أخبرني عقبة بن عامر الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «سَيَهْلِكُ مِنْ أُمّتِي أهْلُ الكِتابِ ، وأهْلُ اللّينِ » فقال عقبة : يا رسول الله ، وما أهل الكتاب ؟ قال : «قَوْمٌ يَتَعَلّمُونَ كِتابَ اللّهِ يُجادِلُونَ الّذِينَ آمَنُوا » ، فقال عقبة : يا رسول الله ، وما أهل اللّين ؟ قال : «قَوْمٌ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ ، ويُضَيّعُونَ الصّلَوَاتِ » . قال أبو قبيل : لا أحسب المكذّبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا ، وأما أهل اللّين ، فلا أحسبهم إلا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ، ولا يعرفون شهر رمضان .
وقال آخرون : بل عنى به أهل الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ قال : هؤلاء المشركون .
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن زيد وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله : الّذِينَ كَذّبُوا بالْكِتَابِ وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا .
وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } ظاهر الآية أنها في الكفار المجادلين في رسالة محمد والكتاب الذي جاء به بدليل قوله : { الذين كذبوا بالكتاب } . وهذا قول ابن زيد والجمهور من المفسرين . وقال محمد بن سيرين وغيره ، قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة ، وروت هذه الفرقة في نحو هذا حديثاً{[10023]} وقالوا هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعلوا قوله تعالى : { الذين كذبوا } كلاماً مقطوعاً مستأنفاً في الكفار . { الذين } ابتداء وخبره : { فسوف يعلمون } ، ويحتمل أن يكون خبر الابتداء محذوفاً والفاء متعلقة به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.