في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَن تَوَلَّىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (82)

65

وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير [ ص ] ومناصرته وتأييده ، تمسكا بدياناتهم - لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته ، ولكن باسمها تعصبا لأنفسهم في صورة التعصب لها ! - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهدا ثقيلا غليظا مع ربهم في مشهد مرهوب جليل . . في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم . فسقة عن عهد الله معهم . فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه ، الخاضع لناموسه ، المدبر بأمره ومشيئته :

( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟ ) . .

إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق . ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ . شاذ في هذا الوجود الكبير . ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَمَن تَوَلَّىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (82)

يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم ، عليه السلام ، إلى عيسى ، عليه السلام ، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أيّ مبلَغ ، ثم جاءه رسول من بعده ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ؛ ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي : لمهما أعطيتكم{[5258]} من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي }

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي : يعني عهدي .

وقال محمد بن إسحاق : { إصري } أي : ثقل ما حمّلْتم من عهدي ، أي{[5259]} ميثاقي الشديد المؤكد .

{ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : عن هذا العهد والميثاق ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[5260]} وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه .

وقال طاووس ، والحسن البصري ، وقتادة : أخذ{[5261]} الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا .

وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه . ولهذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني{[5262]} مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة ، فكتب لي جَوَامعَ{[5263]} من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت{[5264]} له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا - قال : فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ، {[5265]} إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ " {[5266]} .

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر{[5267]} حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، وَإِنَّه - واللهِ - لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي " {[5268]} .

وفي بعض الأحاديث [ له ]{[5269]} : " لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي " {[5270]} .

فالرسول محمد خاتم الأنبياء{[5271]} صلوات الله وسلامه عليه ، دائما إلى يوم الدين ، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو{[5272]} الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم ؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء{[5273]} لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر{[5274]} في إتيان الرب لِفَصْل القضاء ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكونَ هو المخصوص به .


[5258]:في أ: "أعطيكم".
[5259]:في جـ، ر، أ، و، "يعني".
[5260]:زيادة من أ.
[5261]:زيادة من أ.
[5262]:في ر: "إنني".
[5263]:في أ: "جوامع الكلم".
[5264]:في جـ، ر، أ، و: "فقلت".
[5265]:في أ: "لظللتم".
[5266]:المسند (4/265) قال الهيثمي في المجمع (1/173): "رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف".
[5267]:في جـ، ر، أ، و: "أبو يعلى".
[5268]:مسند البزار برقم (124) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (3/387) والدارمي في السنن (1/115) قال الهيثمي في المجمع (1/174): "رواه البزار وأحمد وأبو يعلى". وقد حسنه الشيخ ناصر الألباني، وتوسع في الكلام عليه فليراجع في كتابه: "إرواء الغليل" (6/34).
[5269]:زيادة من أ.
[5270]:قال العبد الضعيف: لم أجد من ذكر عيسى في الحديث، ولعل الله ييسر لي الاطلاع على هذه الرواية والله أعلم.
[5271]:في أ: "النبيين".
[5272]:في جـ، ر، أ، و: "كان".
[5273]:في جـ، أ، و: "ليلة الإسراء إمامهم".
[5274]:في أ، و: "المحشر".