وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم :
( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون ) . .
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم ، فيصلون الجحيم ، مع الترذيل والتأنيب حين يقال : ( هذا الذي كنتم به تكذبون ) . .
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم ، وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
بينما المؤمنون يتمتعون بنعيم الجنة ، جالسين على الأرائك في نعيم مقيم ، يفتح لهم باب فيرون أهل جهنم في بلاء شديد ، فيشكرون الله على ما أولاهم به من النعيم .
قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ :
فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون .
لا ضحك الجاهل المغرور ، بل ضحك الموقن بالسرور . . . ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به ، انكشف لهم بالعيان ما كانوا يرجونه من إكرام الله لهم ، وخذلانه لأعدائهم ، فسرّوا بذلك وفرحوا ، وضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلّت لهم عاقبة أعمالهم ، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم ، فنكّست أعناقهم لخزيهم وذلّهم ، فما أعظم مجد المؤمنين في ذلك اليوم .
إلى صنع الله بأعدائهم ، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ، جزاء وفاقاviii .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله تعالى ذكره:"فالْيَوْمَ "وذلك يوم القيامة "الّذِينَ آمَنُوا" بالله في الدنيا "مِنَ الكُفّارِ" فيها "يَضْحَكُونَ على الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ" يقول: على سررهم التي في الحِجال ينظرون إليهم، وهم في الجنة، والكفار في النار يُعَذّبون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
واحدها أريكة ينتظرون ما يفعله الله بهم من الثواب والنعيم في كل حال، وما ينزل بالكفار من اليم العقاب وشديد النكال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{على الأرائك} أي الأسرة العالية المزينة التي هي من حسنها أهل لأن يقيم المتكئ بها {ينظرون} أي يجددون تحديق العيون إليهم كلما أرادوا فيرون ما هم فيه من الهوان والذل والعذاب بعد العزة والنعيم نظر المستفهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي يشاهدون المشركين في العذاب والإِهانة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ماذا ينظرون؟ إنّهم ينظرون إلى: نعم اللّه التي لا توصف ولا تنفد في الجنّة، وإلى كلّ ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين ....
قوله تعالى : " فاليوم " يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة " الذين آمنوا " بمحمد صلى الله عليه وسلم " من الكفار يضحكون " كما ضحك الكفار منهم في الدنيا . نظيره في آخر سورة " المؤمنين " {[15865]} وقد تقدم . وذكر ابن المبارك : أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " قال : ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى . قال الله تعالى في آية أخرى : " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " [ الصافات : 55 ] قال : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي . وذكر ابن المبارك أيضا : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : " الله يستهزئ بهم " [ البقرة : 15 ] قال : يقال لأهل النار وهم في النار : اخرجوا ، فتفتح لهم أبواب النار ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك قوله : " الله يستهزئ بهم " [ البقرة : 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " قد مضى هذا في أول سورة " البقرة " {[15866]} . ومعنى " هل ثوب " أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك . وقيل : إنه متعلق ب " ينظرون " أي ينظرون : هل جوزي الكفار ؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا ب " ينظرون " . وقيل : استئناف لا موضع له من الأعراب . وقيل : هو إضمار على القول ، والمعنى : يقول بعض المؤمنين لبعض : " هل ثوب الكفار " أي أثيب وجوزي . وهو من ثاب يثوب أي رجع . فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويستعمل في الخير والشر . تمت السورة والله أعلم .