في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ} (5)

ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين ، الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا ؛ وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين : ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .

والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر . فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية : كتقرير وحدانية الله ، وانطلاق مشيئته ، وهيمنته على الكون والناس . . . وكحقيقة الوحي والنبوة . . وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها ، وربطها بأصول العقيدة . أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق - كمسألة التطفيف في الكيل والميزان - والمعاملات بصفة عامة ، فأمر جاء متأخرا في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية ، وفق المنهج الإسلامي ، الشامل للحياة . .

ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالات متنوعة ، تكمن وراء هذه الآيات القصار . .

إنه يدل أولا على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء ، الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة ، التي تكاد تكون احتكارا . فقد كانت هنالك أموالا ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام . كما افتتحوا أسواقا موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج ، يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار !

والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل ، ويعلن عليهم هذه الحرب ، كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ ، الذين يملكون إكراه الناس على ما يريدون . فهم يكتالون ( على الناس ) . . لا من الناس . . فكأن لهم سلطانا على الناس بسبب من الأسباب ، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسرا . وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقا . وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم . إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم ، ويستوفون ما يريدون إجبارا . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس ، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق . . ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه ؛ واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم ؛ كما يقع حتى الآن في الأسواق . . فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .

كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين ؛ وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية ؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية ، لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة ، أصحاب السلطان المهيمن - لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب ، بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عاليا في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه ، المرابين المحتكرين ، المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير بأوهام الدين ! فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظا للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدرا لها حتى وهو محاصر في مكة ، بسطوة المتجبرين ، المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين !

ومن ثم ندرك طرفا من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون - ولا ريب - أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير ، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة ، بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان . . كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجا يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي ؛ وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية . . ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية . لا عن مجرد الاعتقاد والتصور المجردين . .

والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيدا . ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة ، ومصالحهم المغتصبة ، وكيانهم الزائف . . وسلوكهم المنحرف . . هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم !

والطغاة البغاة الظلمة المطففون - في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات - هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف ! الذي لا يقبل المساومة ، ولا المداهنة ، ولا أنصاف الحلول ?

ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة : قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج . هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ? قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن ! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف . فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ? قال : " الجنة " . . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه .

فقد أدرك هؤلاء - كما أدرك كبراء قريش من قبل - طبيعة هذا الدين . وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك ، لا يقبل من طاغية طغيانا ، ولا من باغ بغيا ، ولا من متكبر كبرا . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل ؛ ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .

( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .

وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم .

يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين ، ليس لهم مولى يومئذ سواه ، وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء ، وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير . . إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف ، وأكل أموال

الناس بالباطل ، واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل . . ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ! وهو أمر عجيب ، وشأن غريب !

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ} (5)

1

المفردات :

ألا يظن : يتيقن ، وهو استفهام توبيخ وإنكار وتعجب من حالهم ، وعبّر بالظن لأن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح ، فكيف بمن تيقنه .

يوم يقوم الناس : من قبورهم .

لرب العالمين : لأمره وحكمه وحسابه وجزائه ، والتعبير برب العالمين وقيام الناس للحساب ، مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه .

التفسير :

ثم توعّد الله المطفّفين بقوله :

4 ، 5 ، 6- لا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لرب العالمين .

هؤلاء المعتدون ألا يخطر ببالهم أنهم مبعوثون ، ومسئولون عما يفعلون ، في يوم عظيم أمره ، شديد خطره ، حين يقوم الناس من قبورهم للحشر والحساب والجزاء ، وتنفيذ أمر الله ، فمن وفّى وفّي له ، ومن طفف وظلم أدخل نارا حامية ، أما يخاف هؤلاء يوم القيامة ، حيث يقف الجميع على أرض بيضاء عفراء ، وتقترب الشمس من الرؤوس ، ويشتد العرق حتى يصل إلى رقاب الناس ، أو يفغر أفواههم ، أما يخافون هول هذا اليوم ، وما فيه من حساب وجزاء .

قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .

إن مجرد الظن بالقيامة والبعث والحساب والجزاء ، جدير بأن يردع الإنسان عن تطفيف الكيل والميزان ، وظلم الآخرين والإساءة إليهم ، فما بالك إذا كان لك عين اليقين .

وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين ، أي : ألا يوقن أولئك بالبعث في ذلك اليوم العظيم ، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والميزان ، وهذا دليل على أن التطفيف من الكبائر .

قال الإمام فخر الدين الرازي :

جمع الله سبحانه في هذه الآيات أنواعا من التهديد :

فقال أولا : ويل للمطفّفين . وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء .

ثم قال ثانيا : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . وهو استفهام بمعنى الإنكار .

ثم قال ثالثا : ليوم عظيم . والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة .

ثم قال رابعا : يوم يقوم الناس لرب العالمين . وفيه نوعان من التهديد :

أحدهما : كونهم قائمين مع غاية الخشوع ، ونهاية الذلّ والانكسار .

والثاني : أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين .

فائدة :

بمناسبة تفسير قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين .

تكلم المفسرون عن قيام الناس بعضهم لبعض ، وفيه خلاف ، فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه .

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب ، واعتنقه ، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تاب الله عليه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم )iv . إشارة إلى سعد بن معاذ .

وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : ( من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . v .

وقد روى القرطبي هذه الآثار ، ثم قال : وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيّته ، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه فهو ممنوع ، وإن كان على طريق البشاشة والصلة فإنه جائز وبخاصة عند الأسباب ، كالقدوم من السفر ونحوه .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ} (5)

" ليوم عظيم " شأنه وهو يوم القيامة .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ} (5)

{ ليوم } أي لأجله وفيه ، وزاد التهويل بقوله : { عظيم * } أي لعظمة ما يكون فيه من الجمع والحساب الذي يكون عنه{[72147]} الثواب و{[72148]}العقاب مما لا يعلمه على حقيقته{[72149]} إلا هو سبحانه وتعالى .


[72147]:من ظ و م وفي الأصل: عليه.
[72148]:من ظ و م، وفي الأصل: إذ.
[72149]:من ظ و م، وفي الأصل: سقيقة.