{ 25 - 26 } { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
أي : لما أهبط اللّه آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض ، أخبرهما بحال إقامتهم فيها ، وأنه جعل لهم فيها حياة يتلوها الموت ، مشحونة بالامتحان والابتلاء ، وأنهم لا يزالون فيها ، يرسل إليهم رسله ، وينزل عليهم كتبه ، حتى يأتيهم الموت ، فيدفنون فيها ، ثم إذا استكملوا بعثهم اللّه وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة ، التي هي دار المقامة .
وقوله : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } كقوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [ طه : 55 ] يخبر تعالى أنه يجعل{[11629]} الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا ، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ، ومنها نشورهم ليوم القيامة{[11630]} الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، ويجازي كلا بعمله .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } .
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره : قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه : فِيها تَحْيَوْنَ يقول : في الأرض تحيون ، يقول : تكونون فيها أيام حياتكم ، وَفِيها تَمُوتُونَ يقول في الأرض تكون وفاتكم ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ : يقول : ومن الأرض يخرجكم ربكم ، ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال فيها تحيون}، يعني في الأرض، {وفيها تموتون} عند منتهى آجالكم، {ومنها تخرجون} يوم القيامة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الله للذين أهبطهم من سماواته إلى أرضه:"فِيها تَحْيَوْنَ" يقول: في الأرض تحيون، يقول: تكونون فيها أيام حياتكم، "وَفِيها تَمُوتُونَ "يقول في الأرض تكون وفاتكم، "وَمِنْها تُخْرَجُونَ": يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم، ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فيها تحيون...} حكم من الله عز وجل أمضاه وجعله حتماً في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى هذا القول المجمل بما هو جدير أن يفكر فيه ويسأل عنه فاستأنفه كسابقه وهو {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} أي في هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم ولمجموع نوعكم أو نوعيكم، على أن إبليس داخل في الخطاب. وفيه دليل على أنه لا يبقى إلى يوم البعث. وفيها تموتون عند انتهائه ومنها تخرجون بعد موت الجميع، وعندما يريد الخالق أن يبعثكم يوم القيامة للنشأة الآخرة، كما قال في سورة طه {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه 55) وهي تشبه النشأة الأولى إذ قال {كما بدأكم تعودون} (الأعراف 29) وقال مذكرا بها {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} (الواقعة 60- 62).
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى: أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه 123- 126) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم...
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه: ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كما ذكّر الجميع بأنّهم سيتعرضون في الأرض للموت بعد الحياة، ثمّ يخرجون من الأرض مرّة أُخرى للحساب (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون).
والظاهر أن المخاطبين في هذه الآية: (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) هم آدم وحواء وإِبليس جميعاً، ولكن لا يبعد أن يكون المخاطبين في الآية اللاحقة هم آدم وحواء فقط لأنّهما هما اللذان يخرجان من الأرض.
إِن بعض المفسّرين الذين تأثروا بموجة الأفكار الغربية الإِلحادية عادة، وحاولوا أن يضفوا على قصّة آدم وحواء من بدايتها إلى نهايتها طابع التشبيه والكناية والمجازية، أو ما يسمّى الآن بالرمزية، ويحملوا جميع الألفاظ المتعلقة بهذه الحادثة على خلاف الظاهر على الكناية عن المسائل المعنوية.
ولكن الذي لا شك فيه أن ظاهر هذه الآيات يحكي عن حادثة واقعية عينية وقعت لأبينا وأُمنا الأوّلين: آدم وحواء، وحيث أن هذه القصّة لا تتضمن أية نكتة غير قابلة للتفسير حسب الظاهر، كما ليس فيها ما يخالف الموازين العقلية (ليكون قرينة على حملها على المعنى الكنائي) لهذا ليس هناك أي دليل على أن نعرض عن ظاهر الآيات، ولا نحملها على معناها الحقيقي.
ولكن مع ذلك يمكن أن تحمل هذه الحادثة الواقعية الحسية إِشارات إلى حياة النوع البشري في مستقبل هذه العالم.
يعني أنّ الإنسان المركب من قوّة «العقل» ومن «الغرائز الجامحة» والتي تجرّه كل واحدة منهما إلى جهة وناحية يواجه في خضم هذه الحياة الصاخبة دعاة كذّابين أصحاب سوابق سيئة مثل الشيطان، يحاولون بوساوسهم المتواصلة إِلقاء الستار والحجاب على عقله بغية عزله عنه، وبغية خداعه وإِضلاله وتركه حائراً في متاهات الحياة يبحث عن سراب.
إِنّ أوّل نتيجة للاستسلام أمام الوساوس هو انهيار حاجز التقوى، وسقوط لباسه، وانكشاف مساوئه وسوءاته.
والأُخرى هي الابتعاد عن مقام القرب إلى الله، وسقوط الإنسان عن مقام الإنسانية الكريم، والإِخراج من جنة الأمن والطمأنينة، والوقوع في دوامة الحياة المادية المضنية.
وفي هذه الحالة يمكن لقوّة العقل أيضاً أن تساعد الإنسان وتعينه على النهوض من كبوته، فيفكر فوراً في تلافي ما فاته، وجبران ما بدر منه، فيبعثه العقل والتفكير إلى أن يعود إلى الله كي يعترف بكل شجاعة وصراحة بذنوبه، اعترافاً بناء واعياً مفيداً يعدُّ منعطفاً في حياته.
وفي هذا الوقت تمتد إِليه يد الرحمة الإِلهية مرّة أُخرى، وتنقذه وتخلصه من السقوط الأبديّ، وإِن كان لا يستطيع مع ذلك التخلص من آثار معصيته الوضعية ونتائجها الطبيعية مهما كانت قليلة ومحدودة. ولكن هذه الحادثة ستكون له درساً وعبرة، وسيمكنه ذلك من أن يتخذ من هذه الهزيمة قاعدة صلبة لانتصاره في مستقبل الحياة، ويستفيد من هذا الضرر نفعاً كبيراً في المراحل القادمة من حياته.