ثم أضافوا إلى هذا دعاء آخر ، أكثر صراحة من سابقه في المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } .
أى : نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط ، بل نلتمس منك - أيضا - أن تنجينا من شرور القوم الكافرين ، وأن تخلصنا من سوء جوارهم ، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب .
قال الإِمام الشوكانى : " وفي هذا الدعاء الذي تضرعوا به إلى الله - دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم " .
والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة :
( ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) . .
ودعاؤهم اللّه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين ، وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين ، لا ينافي الاتكال على اللّه والتقوي به . بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى اللّه . والمؤمن لا يتمنى البلاء ، ولكن يثبت عند اللقاء .
ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة ، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون إن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق ، قاله مجاهد وغيره .
قال القاضي أبو محمد : فهذا لدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين ، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون ، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق ، وفي ذلك فساد الأرض ، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «بئس الميت أبو أمامة ليهود والمشركين ، يقولون : لو كان نبياً لم يمت صاحبه »{[6202]} ، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة : إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة ، وفي هذا التأويل قلق ، باقي الآية بيّن .
زيادة { برحمتك } للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم ، قال تعالى : { قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .
وذكر لفظ القوم في قوله : { للقوم الظالمين } وقوله : { من القوم الكافرين } للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة ، وفي هذه السورة غير مرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ونجنا" يا ربنا "برحمتك"، فخلّصنا من أيدي القوم الكافرين قوم فرعون لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القذرة من خدمتهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ونجنا "معناه: خلصنا مما فيه المخافة والشماتة.
وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى: {ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}.
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، وذلك لأنا إن حملنا قولهم: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلى الله تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم. وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم. وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضا دليلا على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
...وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا لتجاب دعوته.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم، وأن يخلصوا من الكفار، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي نجنا من سلطانهم وحكمهم؛ لأن حكم الكافر لا يطاق. ومثل هذا الدعاء في جملته قوله تعالى في سياق التأسي بإبراهيم والذين آمنوا معه في أقوالهم لقومهم وأفعالهم وتوكلهم {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوكَّلْنَا وإِلَيْكَ أَنَبْنَا وإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 4، 5]، وما أجدر المسلمين اليوم بهذه الأسوة، وتجديد الإنابة، وتكرار هذا الدعاء خاشعين معتبرين مستعبرين، فقد أصبحوا فتنة للقوم الكافرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين)..
ودعاؤهم اللّه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين، وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين، لا ينافي الاتكال على اللّه والتقوي به. بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى اللّه. والمؤمن لا يتمنى البلاء، ولكن يثبت عند اللقاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
زيادة {برحمتك} للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم، قال تعالى: {قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17].
وهنا توضح الآية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا في إيمان العدو؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد الإيمان...
وهم أرادوا إيمان العدو رغم أنه ظالم.
وهكذا يعلم الحق-سبحانه وتعالى-الخلق أنه من حمق العداوة أن يدعو الإنسان على عدوّه بالشر؛ لأن الذي يتعبك من عدوك هو شرُّه، ومن صالحك أن تدعو له بالخير؛ لأن هذا الخير سيتعدى إليك.
وعلى المؤمن أن يدعو لعدوه بالهداية، لأنه حين يهتدي؛ فلسوف يتعدى النفع إليك، وهذه من مميزات الإيمان أن نفعه يتعدى إلى الغير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلا تسلّطهم علينا من خلال القوّة الغاشمة التي يملكونها، بل اشملنا برعايتك ورحمتك في كل أمورنا الحاضرة والمستقبلية، حتى لا نحتاج إلى أحدٍ غيرك، ولا نلجأ إلى أحدٍ سواك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من (المسرفين) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظالمين)، وفي آخر آية بأنّهم من (الكافرين). إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا، أي التعدي على الحدود، ثمّ الظلم، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والإلحاد!