{ 82 } { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق . فتوعدهم فرعون بالصلب ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم .
وأما فرعون وملؤه ، وأتباعهم ، فلم يؤمن منهم أحد ، بل استمروا في طغيانهم يعمهون . ولهذا قال : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ }
وقوله : { وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } تأكيد لسنة الله - تعالى - في تنازع الحق والباطل ، والصلاح والفساد .
أى : نه جرت سنة الله تعالى - أن لا يصلح عمل المفسدين ، بل يمحقه ويبطله ، وأنه - سبحانه - يحق الحق أى يثبته ويقويه ويؤيده { بِكَلِمَاتِهِ } النافذة . وقضائه الذي لا يرد ، ووعده الذي لا يتخلف { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } ذلك لأن كراهيتهم لإِحقاق الحق وإبطال الباطل ، لا تعطيل مشيئة الله ، ولا تحول بين تنفيذ آياته وكلماته وقد كان الأمر كذلك فقد أوحى الله إلى موسى { أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هي تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ذكر تعالى{[14349]} قصة السحرة مع موسى ، عليه السلام ، في سورة الأعراف ، وقد تقدم الكلام عليها هناك . وفي هذه السورة ، وفي سورة طه ، وفي الشعراء ؛ وذلك أن فرعون - لعنه الله - أراد أن يَتَهَرَّج على الناس ، ويعارض ما جاء به موسى ، عليه السلام ، من الحق المبين ، بزخارف{[14350]} السحرة والمشعبذين ، فانعكَس عليه النظام ، ولم يحصل له ذلك المرام ، وظهرت{[14351]} البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام ، و { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 46 - 48 ] فظن فرعون أن{[14352]} يستنصر بالسحَّار ، على رسول عالم الأسرار ، فخاب وخسر الجنة ، واستوجب النار .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } {[14353]} ؛ وإنما قال لهم ذلك لأنهم اصطفوا - وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل - { قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [ طه : 65 ، 66 ] ، فأراد موسى أن تكون البَدَاءة منهم ، ليرى الناس ما صنعوا ، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم ؛ ولهذا لما { أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] ،
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 67 ، 69 ] ، فعند ذلك قال موسى لما ألقوا : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا عبد الرحمن - يعني الدَّشْتَكِيّ - أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن لَيْث - وهو ابن أبي سليم - قال : بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى ، تقرأ في إناء فيه ماء ، ثم يصب على رأس المسحور : الآية التي من سورة يونس : { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } والآية الأخرى : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 118 - 122 ] ، وقوله { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 69 ] .
وقوله { ويحق الله الحق } الآية ، يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام ، ويحتمل أن يكون من إخبار الله عز وجل ، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري ، وأما قوله { بكلماته } فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك ، قال ابن سلام { بكلماته } بقوله : لا تخف ومعنى { ولو كره المجرمون } وإن كره المجرمون والمجرم : المجترم الراكب للخطر .
جملة : { ويُحق الله الحق } معطوفة على جملة : { إن الله سيبطله } أي سيبطله ويحق الحق ، أي يثبت المعجزة .
والإحقاق : التثبيت . ومنه سمِّي الحق حقاً لأنه الثابت .
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم . والباء في { بكلماته } للسببية .
والكلمات : مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه . وهي استعارة رشيقة ، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم ، وعلى علمه .
وجملة : { ولو كره المجرمون } في موضع الحال ، و ( لو ) وصلية ، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يُظن فيه تخلف حكم ما قبلها ، كما تقدم عند قوله تعالى : { ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] ، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه . وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم .
وأراد ( بالمجرمين ) فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضاً بهم . وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول : وإن كرهتم أيها المجرمون عدولاً عن مواجهتهم بالذم ، وقوفاً عند أمر الله تعالى إذ قال له : { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك . وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [ الزمر : 64 ] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم ، وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة . ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم ، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم ، وموسى كان محاولاً فرعونَ وملأه أن يؤمنوا ، فكان في مقام الترغيب باللين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى أنه قال للسحرة:"ويُحِقّ اللّهُ الحَقّ" يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه بكلماته، يعني بأمره.
"وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ "يعني الذين اكتسبوا الإثم بربهم بمعصيتهم إياه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ويحق الله الحق بكلماته "وقيل في معناه ثلاثة اقوال:
اولها -قال الحسن: بوعده لموسى.
الثاني- قال أبو علي: بكلامه الذي يبين به معاني الآيات التي آتاها نبيه (صلى الله عليه وآله).
الثالث -بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بأن ذلك يكون. وإحقاق الحق معناه: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة والآيات البينة حتى يرجع الطاعن عليه حسيرا والمناصب له مفلولا.
"ولو كره المجرمون "معناه أنه يحق وإن كرهه من هو مجرم.
وفي الآية دلالة على أنه تعالى ينصر المحقين كلهم لنصره إياهم بالحجة فأما بالغلبة في كل حال فموقوف، لأن المصلحة قد تكون بالتخلية تارة وبالحيلولة أخرى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بكلماته} بأوامره وقضاياه، وقرئ: «بكلمته»: بأمره ومشيئته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بكلماته} فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك.
{ولو كره المجرمون} وإن كره المجرمون،والمجرم: المجترم الراكب للخطر.
{بكلماته}... بما سبق من قضائه وقدره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال: {ويحق} أي يثبت إثباتاً عظيماً {الله} أي الملك الأعظم {الحق} أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم. وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله: {بكلماته} أي الأزلية التي لها الثبات الأعظم، وزاد في العظمة بقوله: {ولو كره المجرمون} أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم، واضمحل مكرهم، وحق الحق -كما بين في سورة الأعراف.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} ذلك والمرادُ بهم كلُّ من اتصف بالإجرام من السحَرة وغيرِهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية وهي مقتضى إرادته، وكلماته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومنها وعده بنصري على فرعون وإنقاذ قومي من عبوديته وظلمه.
{ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} كفرعون وقومه. وقد سبق تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنفال [الآيتان: 7 8].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة اللّه، ولا تقف دون آياته. وقد كان.. وبطل السحر وعلا الحق.. ولكن السياق يختصر المشاهد هنا؛ لأنها ليست مقصودة في هذا المجال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {ويُحق الله الحق} معطوفة على جملة: {إن الله سيبطله} أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة.
والإحقاق: التثبيت. ومنه سمِّي الحق حقاً لأنه الثابت.
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم. والباء في {بكلماته} للسببية.
والكلمات: مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه. وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم، وعلى علمه.
وجملة: {ولو كره المجرمون} في موضع الحال، و (لو) وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يُظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91]، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه. وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم.
وأراد (بالمجرمين) فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضاً بهم. وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول: وإن كرهتم أيها المجرمون عدولاً عن مواجهتهم بالذم، وقوفاً عند أمر الله تعالى إذ قال له: {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك. وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة. ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولاً فرعونَ وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين.