ويلتفت من هذا المشهد إلى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرض عليهم ما جرى للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم :
( كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) . .
فهذه حال المكذبين في الدنيا والآخرة . في الدنيا أذاقهم الله الخزي . وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأكبر . وسنة الله ماضية لا تتخلف . ومصارع القرون من قبلهم شاهدة . ووعيد الله لهم في الآخرة قائم . والفرصة أمامهم سانحة . وهذا الذكر لمن يتعظ ويذكر ( لو كانوا يعلمون ) !
استئناف بياني لأن ما ذكر قبله من مصير المشركين إلى سوء العذاب يوم القيامة ويوم يقال للظالمين هم وأمثالهم : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } [ الزمر : 24 ] ، يثير في نفوس المؤمنين سؤالاً عن تمتع المشركين بالنعمة في الدنيا ويتمنون أن يعجل لهم العذاب فكان جواباً عن ذلك قولُه : { كذَّبَ الذين من قبلهم فأتاهم العذابُ من حيثُ لا يشعرونَ } ، أي هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتى العذابُ الذين مَن قبلهم إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار غيرَ مترقبين مجيئه ، على نحو قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] ، فكان عذاب الدنيا خزياً يخزي به الله من يشاء من الظالمين ، وأما عذاب الآخرة فجزاء يَجزي به الله الظالمين على ظلمهم .
والفاء في قوله : { فأتاهم العذابُ } دالّة على تسبب التكذيب في إتيان العذاب إليهم فلما ساواهم مشركو العرب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان سبب حلول العذاب بأولئك موجوداً فيهم فهو منذر بأنهم يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك .
وضمير { مِن قَبْلِهم } عائد على { مَن يتَّقِي بوجهه سُوءَ العَذَابِ } [ الزمر : 24 ] باعتبار أن معنى ( مَن ) جمع . وفي هذا تعريض بإنذار المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا وهو عذاب السيف الذي أخزاهم الله به يوم بدر . فالمراد بالعذاب الذي أتى الذين من قبلهم : هو عذاب الدنيا ، لأنه الذي يوصف بالإِتيان من حيث لا يشعرون .
و { حيثُ } ظرف مكان ، أي جاء العذابُ الذين من قبلهم من مكان لا يشعرون به ؛ فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق ، وقوم أتاهم من الجو مثل ريح عاد ، قال تعالى : { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] ، وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل والخسف مثل قوم لوط ، وقوم أتاهم من نبع الماء من الأرض مثل قوم نوح ، وقوم عم عليهم البحر مثل قوم فرعون .
وكان العذاب الذي أصاب كفار قريش لم يخطر لهم ببال ، وهو قطع السيوف رقابهم وهم في عزة من قومهم وحرمة عند قبائل العرب ما كانوا يحسبون أيدياً تقطع رقابهم كحال أبي جهل وهو في الغَرغرة يوم بدر حين قال له ابن مسعود : أنت أبَا جهل ؟ فقال : « وهل أعمد من رجل قتله قومه » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كذب الذين من قبلهم} يعني قبل كفار مكة كذبوا رسلهم بالعذاب في الآخرة بأنه غير نازل بهم.
{فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}: غافلون عنه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ": كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قُريش من الأمم الذين مضوا في الدهور الخالية رسلهم.
"فَأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعَرُونَ": فجاءهم عذاب الله من الموضع الذي لا يشعرون: أي لا يعلمون بمجيئه منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ليخوّفهم، ويحذّرهم بما نزل بالمتقدمين بتكذيب الرسل عليهم السلام والعناد، وحذّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعث وما يحل بهم يوم القيامة بذلك. فإذا لم يصدّقوه في ما يحذّرهم بيوم القيامة حذّرهم بالذي انتهى إليهم الخبر، يعني خبر المتقدمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحذروا.
{من حيث لا يشعرون} أي من حيث لا يأمنون العذاب الذي ينزل بهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر بما نال تلك الأمم من كونها في الدنيا أحاديث ملعنة، ولا خزي أعظم من هذا مع ما نال نفوسهم من الألم والذل والكرب...
هذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله: {فأتاهم العذاب} تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلا ههنا لزم حصول العذاب استدلالا بالعلة على المعلول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما أعد لهم في الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم.
{فأتاهم العذاب} وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله: {من حيث} أي من جهة {لا يشعرون} جعل إتيانه من مأمنهم؛ ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها، ومن جهة لا يتوقع أبدا أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع منها إلا الخير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأن ما ذكر قبله من مصير المشركين إلى سوء العذاب يوم القيامة ويوم يقال للظالمين هم وأمثالهم: {ذوقوا ما كنتم تكسبون} [الزمر: 24]، يثير في نفوس المؤمنين سؤالاً عن تمتع المشركين بالنعمة في الدنيا، ويتمنون أن يعجل لهم العذاب، فكان جواباً عن ذلك قولُه: {كذَّبَ الذين من قبلهم فأتاهم العذابُ من حيثُ لا يشعرونَ} أي هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتى العذابُ الذين مَن قبلهم إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار غيرَ مترقبين مجيئه، فكان عذاب الدنيا خزياً يخزي به الله من يشاء من الظالمين، وأما عذاب الآخرة فجزاء يَجزي به الله الظالمين على ظلمهم...
ضمير {مِن قَبْلِهم} عائد على {مَن يتَّقِي بوجهه سُوءَ العَذَابِ} [الزمر: 24] باعتبار أن معنى (مَن) جمع، وفي هذا تعريض بإنذار المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا وهو عذاب السيف الذي أخزاهم الله به يوم بدر، فالمراد بالعذاب الذي أتى الذين من قبلهم: هو عذاب الدنيا؛ لأنه الذي يوصف بالإِتيان من حيث لا يشعرون.
{حيثُ} ظرف مكان، أي جاء العذابُ الذين من قبلهم من مكان لا يشعرون به؛ فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق، وقوم أتاهم من الجو مثل ريح عاد، قال تعالى: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: 24]، وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل والخسف مثل قوم لوط، وكان العذاب الذي أصاب كفار قريش لم يخطر لهم ببال، وهو قطع السيوف رقابهم وهم في عزة من قومهم وحرمة عند قبائل العرب، ما كانوا يحسبون أيدياً تقطع رقابهم كحال أبي جهل وهو في الغَرغرة يوم بدر حين قال له ابن مسعود: أنت أبَا جهل؟ فقال: « وهل أعمد من رجل قتله قومه»...