أي : اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد الأعداء . { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } الواضح والذي على الحق يدعو إليه ، ويقوم بنصرته أحق من غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه لا شك فيه ولا مرية . وأيضا فهو حق في غاية البيان لا خفاء به ولا اشتباه ، وإذا قمت بما حملت وتوكلت على الله في ذلك فلا يضرك ضلال من ضل وليس عليك هداهم فلهذا قال : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ } .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله . . } للتفريع . أى : ما دمت قد عرفت ذلك - أيها الرسول الكريم - ففوض أمرك إلى العزيز العليم وحده ، وتوكل عليه دون سواه ، وبلغ رسالته دون أن تخشى أحدا إلا إياه .
وجملة " إنك على الحق المبين " تعليل للتوكل على الله وحده .
أى : توكل على الله - تعالى - وحده ، لأك - أيها الرسول الكريم - على الحق الواضح البين ، الذى لا تحوم حوله شبهة من باطل .
( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) . .
وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية كخلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار . سنة لا تتخلف . . قد تبطئ . تبطئ لحكمة يعلمها الله ، وتتحقق بها غايات يقدرها الله . ولكن السنة ماضية . وعد الله لا يخلف الله وعده . ولا يتم الإيمان إلا باعتقاد صدقه وانتظار تحققه . ولو عد الله أجل لا يستقدم عنه ولا يستأخر .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ * إِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ففوّض إلى الله يا محمد أمورك ، وثق به فيها ، فإنه كافيك إنّكَ عَلى الحَقّ المُبِين لمن تأمّله ، وفكر ما فيه بعقل ، وتدبره بفهم ، أنه الحقّ ، دون ما عليه اليهود والنصارى المختلفون من بني إسرائيل ، ودون ما عليه أهل الأوثان المكذّبوك فيما أتيتهم به من الحقّ ، يقول : فلا يحزنك تكذيب من كذّبك ، وخلاف من خالفك ، وامض لأمر ربك الذي بعثك به .
فرعت الفاء على الإخبار بأن رب الرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين المختلفين في شأن القرآن أمراً للرسول بأن يطمئن بالاً ويتوكل على ربه فيما يقضي به فإنه يقضي له بحقه ، وعلى معانده بما يستحقه ، فالأمر بالتوكل مستعمل في كنايته وصريحه فإن من لازمه أنه أدى رسالة ربه ، وأن إعراض المعرضين عن أمر الله ليس تقصيراً من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معنى تكرر في القرآن كقوله { لعلك باخع نفسك } [ الكهف : 6 ] وقوله { ولا تحزن عليهم } [ النمل : 70 ] .
والتوكل : تفعل من وكل إليه الأمر ، إذا أسند إليه تدبيره ومباشرته ، فالتفعل للمبالغة . وقد تقدم عند قوله تعالى { فإذا عزمت فتوكل على الله } في آل عمران ( 159 ) ، وقوله { وعلى الله فتوكّلوا } في المائدة ( 23 ) وقوله { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } في سورة إبراهيم ( 11 ) .
وقد وقعت جملة { إنك على الحق المبين } موقعاً لم يخاطب الله تعالى أحداً من رسله بمثله فكان ذلك شهادة لرسوله بالعظمة الكاملة المنزهة عن كل نقص ، لما دل عليه حرف { على } من التمكن ، وما دل عليه اسم { الحق } من معنى جامع لحقائق الأشياء . وما دل عليه وصف { مبين } من الوضوح والنهوض .
وجاءت جملة { إنك على الحق المبين } مجيء التعليل للأمر بالتوكل على الله إشعاراً بأنه على الحق فلا يترقب من توكله على الحكم العدل إلا أن يكون حكمه في تأييده ونفعه . وشأن ( إن ) إذا جاءت في مقام التعليل أن تكون بمعنى الفاء فلا تفيد تأكيداً ولكنها للاهتمام .
وجيء في فعل التوكل بعنوان اسم الجلالة لأن ذلك الاسم يتضمن معاني الكمال كلها ، ومن أعلاها العدل في القضاء ونصر المحق . وذلك بعد أن عجلت مسرة الإيماء إلى أن القضاء في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام بإسناده القضاء إلى عنوان الرب مضافاً إلى ضمير الرسول كما تقدم آنفاً .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي اقتضاه وجود مقتضي جلب حرف التوكيد لإفادة التعليل فلا يفيد التقديم تخصيصاً ولا تقوياً .
و { المبين } : الواضح الذي لا ينبغي الامتراء فيه ولا المصانعة للمحكوم له .
وفي الآية إشارة إلى أن الذي يعلم أن الحق في جانبه حقيق بأن يثق بأن الله مظهر حقه ولو بعد حين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فتوكل على الله} يعني: فثق بالله عز وجل...
{إنك على الحق المبين} يعني: على الدين البين وهو الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ففوّض إلى الله يا محمد أمورك، وثق به فيها، فإنه كافيك.
"إنّكَ عَلى الحَقّ المُبِين" لمن تأمّله، وفكر ما فيه بعقل، وتدبره بفهم، أنه الحقّ، دون ما عليه اليهود والنصارى المختلفون من بني إسرائيل، ودون ما عليه أهل الأوثان المكذّبوك فيما أتيتهم به من الحقّ، يقول: فلا يحزنك تكذيب من كذّبك، وخلاف من خالفك، وامض لأمر ربك الذي بعثك به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فتوكل على الله} أي توكل على الله، واعتمد عليه، ولا تخف مكرهم وما يريدون، ويقصدون أن يكيدوا بك، كقوله: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67].
{إنك على الحق المبين} لأن معك حججا وبراهين، ليس مع أولئك حجج وبراهين، [وإن] كان كل منهم يقول: أنا على الحق، فأنت على الحق المبين، لا هم، لأن معك حججا وبراهين أن الذي أنت عليه حق، وأن الذي هم عليه باطل، ليس بحق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي اجتهد في أداء فَرْضِه، وثِقْ بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعَوْنِه. ولا يهولنَّكَ ما يجري على ظواهرهم من أذًى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلُّه بتسليطنا إن كان محذوراً، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوباً. وإنك لَعَلَى حقٍّ وضياء صِدْقٍ، وهم على شكٍ وظلمةِ شِركٍ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما ثبت له العلم والحكمة، والعظمة والقدرة، تسبب عن ذلك قوله: {فتوكل على الله} أي الذي له جميع العظمة بما ثبت علمه وقدرته التي أثبت بها أنك أعظم عباده الذين اصطفى في استهزاء الأعداء وغيره من مصادمتهم ومسالمتهم لتدع الأمور كلها إليه، وتستريح من تحمل المشاق، وثوقاً بنصره...
ثم علل ذلك حثاً على التحري في الأعمال، وفطماً لأهل الإبطال، عن تمني المحال، فقال: {إنك على الحق المبين} أي البين في نفسه الموضح لغيره، فحقك لا يبطل ووضوحه لا يخفى، ونكوصهم ليس عن خلل في دعائك لهم، وإنما الخلل في مداركهم، فثق بالله في تدبير أمرك فيهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والفاءُ في قولِه تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لترتيبِ الأمرِ على ما ذُكر من شؤونِه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ. وقولُه تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بينَ المُحقِّ والمُبطلِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية كخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار. سنة لا تتخلف.. قد تبطئ. تبطئ لحكمة يعلمها الله، وتتحقق بها غايات يقدرها الله. ولكن السنة ماضية. وعد الله لا يخلف الله وعده. ولا يتم الإيمان إلا باعتقاد صدقه وانتظار تحققه. ولوعد الله أجل لا يستقدم عنه ولا يستأخر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فرعت الفاء على الإخبار بأن رب الرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين المختلفين في شأن القرآن أمراً للرسول بأن يطمئن بالاً ويتوكل على ربه فيما يقضي به فإنه يقضي له بحقه، وعلى معانده بما يستحقه، فالأمر بالتوكل مستعمل في كنايته وصريحه، فإن من لازمه أنه أدى رسالة ربه، وأن إعراض المعرضين عن أمر الله ليس تقصيراً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو معنى تكرر في القرآن كقوله {لعلك باخع نفسك} [الكهف: 6] وقوله {ولا تحزن عليهم} [النمل: 70]...
وقد وقعت جملة {إنك على الحق المبين} موقعاً لم يخاطب الله تعالى أحداً من رسله بمثله، فكان ذلك شهادة لرسوله بالعظمة الكاملة المنزهة عن كل نقص، لما دل عليه حرف {على} من التمكن، وما دل عليه اسم {الحق} من معنى جامع لحقائق الأشياء. وما دل عليه وصف {مبين} من الوضوح والنهوض. وجاءت جملة {إنك على الحق المبين} مجيء التعليل للأمر بالتوكل على الله إشعاراً بأنه على الحق، فلا يترقب من توكله على الحكم العدل إلا أن يكون حكمه في تأييده ونفعه. وشأن (إن) إذا جاءت في مقام التعليل أن تكون بمعنى الفاء فلا تفيد تأكيداً ولكنها للاهتمام. وجيء في فعل التوكل بعنوان اسم الجلالة لأن ذلك الاسم يتضمن معاني الكمال كلها، ومن أعلاها العدل في القضاء ونصر المحق. وذلك بعد أن عجلت مسرة الإيماء إلى أن القضاء في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام بإسناده القضاء إلى عنوان الرب مضافاً إلى ضمير الرسول كما تقدم آنفاً.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وإمدادا للرسول الأعظم بمدد إلهي جديد، وهو في خضم المعركة مع قوى الشرك والإلحاد، والشر والفساد، وتثبيتا لفؤاده حتى يتخطى جميع العقبات والمزالق، وجه إليه كتاب الله هذا الخطاب الرقيق الرفيق: {فتوكل على الله، إنك على الحق المبين}، ومن كان الله له نصيرا وعليه وكيلا، لم ينل منه العدو كثيرا ولا قليلا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} واتجه إليه وأقبل عليه، ولا تتوكل على غيره، لأنه الذي يملك الأمر كله، ولا يملكه أحد معه، فهو الذي يملك كل أحد. وذلك هو النهج الذي يريد الله لك أن تسير عليه، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الذي تعيش فيه الوضوح في الفكرة، والإشراق في الموقع، والاستقامة في الطريق، فلا يهمك من أنكر، ولا يضعفك من تمرّد، فليس هناك موقع للضعف في حياة الرسول إذا كان واثقاً من موقع الحق في رسالته حتى لو أنكره الناس كلهم. وقد يكون في هذا التأكيد بأنه على الحق لونٌ من ألوان الإِيحاء بقوّة الموقف عندما يقنع الإنسان بالحقيقة في فكره وفي نهجه وموقعه، لأنه يرتكز على القاعدة الثابتة التي لا اهتزاز فيها؛ ولذلك فإنه ينطلق من خلال الثقة الكبيرة بالخط المستقيم، فلا يبقى له إلا أن يجمع كل طاقاته، ويحرّك كل مواقعه، ويواجه كل التحديات ويتوكل على الله، لتتأكد له الثقة بالوصول إلى الهدف الكبير من خلال الله.