جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فِي ٱلۡحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسۡجَرُونَ} (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلّواْ عَنّا بَل لّمْ نَكُنْ نّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ الْكَافِرِينَ } .

يقول تعالى ذكره : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله ، وهو هذا القرآن و«الذين » الثانية في موضع خفض ردا لها على «الذين » الأولى على وجه النعت وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يقول : وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله ، والبراءة مما يعبد دونه من الاَلهة والأنداد ، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب .

وقوله : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ والسّلاسِلُ ، وهذا تهديد من الله المشركين به يقول جلّ ثناؤه : فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، المكذّبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد ، وصحة ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم . وقرأت قراء الأمصار : والسلاسلُ ، برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بيّنت . وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه «والسّلاسِلُ يُسْحَبُونَ » بنصب السلاسل في الحميم . وقد حُكي أيضا عنه أنه كان يقول : إنما هو وهم في السلاسل يسحبون ، ولا يجيز أهل العلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر . وكان بعضهم يقول في ذلك : لو أن متوهّما قال : إنما المعنى : إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل يسحبون ، جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب ، وقال : مثله ، مما ردّ إلى المعنى ، قول الشاعر :

قَدْ سَالمَ الحَيّاتُ مِنْهُ القَدَما *** الأُفْعُوَانَ والشّجاعَ الأَرْقَما

فنصب الشّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة ، لأن المعنى : قد سالمت رجله الحيات وسالمتها ، فلما احتاج إلى نصب القافية ، جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات .

والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة عليه ، وهو رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله : فِي أعْناقِهِمْ من ذكر الأغلال .

وقوله : يُسْحَبُونَ يقول : يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانيةُ العذاب يوم القيامة في الحميم ، وهو ما قد انتهى حرّه ، وبلغ غايته .

وقوله : ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ يقول : ثم في نار جهنم يحرقون ، يقول : تسجر بها جهنم : أي توقد بهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُسْجَرُونَ قال : يوقد بهم النار .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال : يحرقون في النار .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال : يسجرون في النار : يوقد عليهم فيها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فِي ٱلۡحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسۡجَرُونَ} (72)

جملة { يُسْحَبُون في الحَمِيم } حال من ضمير { أعناقهم } أو من ضمير { يعلمون } . والسَّحْب : الجرّ ، وهو يجمع بين الإِيلام والإِهانة . والحميم : أشد الحرّ .

و ( ثُمّ ) عاطفة جملة { فِي النَّارِ يُسْجَرون } على جملة { يُسْحَبون في الحَمِيم } . وشأن ( ثمّ ) إذا عطَفَت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار ، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أُجمل بقوله : { فَسَوفَ يَعْلَمُونَ } والسَّجْرُ بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخخٍ أم بدونه .

والسجر : ملْءُ التنور بالوقود لتقوية النار فيه ، فإسناد فعل { يسجرون } إلى ضميرهم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم ، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم ، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى : { يصهر به ما في بطونهم والجلود } [ الحج : 20 ] .