جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَيۡهِ وَجَعَلۡنَٰهُ مَثَلٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (59)

وقوله : إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ يقول تعالى ذكره : فما عيسى إلا عبد من عبادنا ، أنعمنا عليه بالتوفيق والإيمان ، وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل ، يقول : وجعلناه آية لبني إسرائيل ، وحجة لنا عليهم بإرسالناه إليهم بالدعاء إلينا ، وليس هو كما تقول النصارى من أنه ابن الله تعالى ، تعالى الله عن ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني بذلك عيسى ابن مريم ، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم ، إن كان إلا عبدا أنعم الله عليه .

وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله : وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيلَ قالوا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن قتادة مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيلَ أحسبه قال : آية لبني إسرائيل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيل أي آية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَيۡهِ وَجَعَلۡنَٰهُ مَثَلٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (59)

لما ذُكر ما يشير إلى قصة جدال ابن الزبعرى في قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] ، وكان سبب جداله هو أن عيسى قد عُبِد من دون الله لم يترك الكلام ينقضي دون أن يردف بتقرير عبودية عيسى لهذه المناسبة ، إظهاراً لخطل رأي الذين ادعوا إلهايته وعبدوه وهم النصارى حرصاً على الاستدلال للحق .

وقد قُصِر عيسى على العبودية على طريقة قصر القلب للرد على الذين زعموه إلها ، أي ما هو إلا عبد لا إله لأن الإلهية تنافي العبودية . ثم كان قوله : { أنعمنا عليه } إشارة إلى أنه قد فُضل بنعمة الرسالة ، أي فليست له خصوصيةُ مزيةٍ على بقية الرسل ، وليس تكوينه بدون أب إلاّ إرهاصاً .

وأما قوله : { وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } فهو إبطال لشبهة الذين ألَّهوه بتوهمهم أن كونه خُلِق بكلمة من الله يفيد أنه جزء من الله فهو حقيق بالإلهية ، أي كان خلقه في بطن أمه دون أن يَقرَبَها ذكر ليكون عبرة عجيبة في بني إسرائيل لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيب وبعُد عهدهم بإرسال الرّسل فبعث الله عيسى مجدّداً للإيمان بينهم ، ومبرهِناً بمعجزاته على عظم قدرة الله ، ومعيداً لتشريف الله بني إسرائيل إذ جعل فيهم أنبياء ليكون ذلك سبباً لقوة الإيمان فيهم ، ومُظهراً لفضيلة أهل الفضل الذين آمنوا به ولعناد الذين منعهم الدفع عن حرمتهم من الاعتراف بمعجزاته فناصبوه العداء وسَعَوْا للتنكيل به وقتلِه فعصمه الله منهم ورفعَه من بينهم فاهتدى به أقوام وافتتن به آخرون . فالمثَل هنا بمعنى العِبرة كالذي في قوله آنفاً { فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } [ الزخرف : 56 ] .

وفي قوله : { لبني إسرائيل } إشارة إلى أن عيسى لم يُبعث إلا إلى بني إسرائيل وأنه لم يَدْعُ غير بني إسرائيل إلى اتّباع دينه ، ومن اتبعوه من غير بني إسرائيل في عصور الكفر والشرك فإنما تقلدوا دعوته لأنها تنقذهم من ظلمات الشرك والوثنية والتعطيل .