الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَيۡهِ وَجَعَلۡنَٰهُ مَثَلٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (59)

{ وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، إذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً { مَا ضَرَبُوهُ } أي ما ضربوا هذا المثل { لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } إلا لأجل الجدل والغلبة في القول ، لا لطلب الميز بين الحق والباطل { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج ، كقوله تعالى : { قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] وذلك أنّ قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 98 ] ما أريد به إلا الأصنام ، وكذلك قوله عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " إنما قصد به الأصنام ، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة ، إلا أن ابن الزبعري بخبه وخداعه وخُبْثِ دُخْلَتِه لما رأى كلام الله ورسوله محتملاً لفظه وجه العموم ، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغاً ، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة ، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام ، على أنّ ظاهر قوله : ( وما تعبدون ) لغير العقلاء . وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ }

[ آل عمران : 59 ] قالوا : نحن أهدى من النصارى ؛ لأنهم عبدوا آدامياً ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت . وقوله : { ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } على هذا القول : تفضيل لآلهتهم على عيسى ؛ لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلاً . معناه : وما قالوا هذا القول ، يعني : ءآلهتنا خير أم هو . إلا للجدال ، وقرىء : «أآلهتنا خير » بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها ، لدلالة أم العديلة عليها . وفي حرف ابن مسعود : خير أم هذا . ويجوز أن يكون جدلاً حالاً ، أي : جدلين . وقيل : لما نزلت { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله } [ آل عمران : 59 ] قالوا : ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشراً ، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر . ومعنى { يَصِدُّونَ } يضجون ويضجرون .

والضمير في { أَمْ هُوَ } لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم : السخرية به والاستهزاء . ويجوز أن يقولوا لما أنكر عليهم قولهم : الملائكة بنات الله وعبدوهم ما قلنا بدعا من القول ، ولما فعلنا نكراً من الفعل ؛ فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه ، ونحن أشف منهم قولاً وفعلاً ، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسي ، فقيل لهم : مذهب النصارى شرك بالله ، ومذهبكم شرك مثله ، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل ، وما عيسى { إِلاَّ عَبْدٌ } كسائر العبيد { أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } حيث جعلناه آية : بأن خلقناه من غير سبب ، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنيَ إسرائيل .