ثم بين - سبحانه - عاقبة الناكثين لعهودهم فقال : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون }
أى فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن نصرته ، بعد أخذ الميثاق المؤكد عليه ، فأولئك المعرضون " هم الفاسقون " أى الخارجون عن الإيمان إلى أفحش دركات الكفر والخيانة .
والفاء فى قوله { فَمَنْ تولى } للتفريع ، و { مَنْ } يجوز أن تكون شرطية ويكون قوله { فأولئك هُمُ الفاسقون } جوابها .
ويجوز أن تكون موصولة ، ويكون قوله { فأولئك هُمُ الفاسقون } هو الخبر .
والضمير في قوله { تولى } يعود على " من " بالإفراد باعتبار لفظها ، ويعود عليها بصيغة الجمع فى قوله " فأولئك " باعتبار معناها .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير [ ص ] ومناصرته وتأييده ، تمسكا بدياناتهم - لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته ، ولكن باسمها تعصبا لأنفسهم في صورة التعصب لها ! - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهدا ثقيلا غليظا مع ربهم في مشهد مرهوب جليل . . في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم . فسقة عن عهد الله معهم . فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه ، الخاضع لناموسه ، المدبر بأمره ومشيئته :
( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟ ) . .
إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق . ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ . شاذ في هذا الوجود الكبير . ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب .
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم ، عليه السلام ، إلى عيسى ، عليه السلام ، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أيّ مبلَغ ، ثم جاءه رسول من بعده ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ؛ ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي : لمهما أعطيتكم{[5258]} من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي }
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي : يعني عهدي .
وقال محمد بن إسحاق : { إصري } أي : ثقل ما حمّلْتم من عهدي ، أي{[5259]} ميثاقي الشديد المؤكد .
{ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : عن هذا العهد والميثاق ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[5260]} وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه .
وقال طاووس ، والحسن البصري ، وقتادة : أخذ{[5261]} الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا .
وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه . ولهذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني{[5262]} مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة ، فكتب لي جَوَامعَ{[5263]} من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت{[5264]} له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا - قال : فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ، {[5265]} إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ " {[5266]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر{[5267]} حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، وَإِنَّه - واللهِ - لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي " {[5268]} .
وفي بعض الأحاديث [ له ]{[5269]} : " لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي " {[5270]} .
فالرسول محمد خاتم الأنبياء{[5271]} صلوات الله وسلامه عليه ، دائما إلى يوم الدين ، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو{[5272]} الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم ؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء{[5273]} لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر{[5274]} في إتيان الرب لِفَصْل القضاء ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكونَ هو المخصوص به .
قوله : { فمن تولى بعد ذلك } أي من تولّى مِمن شهدتم عليهم ، وهم الأمم ، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة [ المائدة : 12 ] : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل }
ووجه الحَصر في قوله : { فأولئك هم الفاسقون } أنه للمبالغة لأنّ فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدَم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.