فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ} (78)

{ ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون( 75 )ونجيناه وأهله من الكرب العظيم( 76 )وجعلنا ذريته هم الباقين( 77 )وتركنا عليه في الآخرين( 78 )سلام على نوح في العالمين( 79 )إنا كذلك نجزي المحسنين( 80 )إنه من عبادنا المؤمنين( 81 )ثم أغرقنا الآخرين( 82 )* } .

بينت آيات كريمة سبقت أن كثيرا من الأمم السالفة ضلوا ، وعتوا عن أمر الله ورسله ولم يزدجروا ، فلينظر كل معتبر بعين بصيرته ليرى عاقبة الذين بغوا وجحدوا ، فإن في هذا التثبيت والبشرى للذين اتقوا وأحسنوا ، والحجة على الغاوين ومن كفروا .

{ ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون } اللام في { لقد } وفي { فلنعم } كلتاهما وقعتا جواب قسم محذوف-أي وتالله لقد دعانا نوح حين يئس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقابا ودهورا ، فلم يزدهم دعاءه إلا فرارا ونفورا ، فأجبناه أحسن الإجابة . فوالله لنعم المجيبون نحن ، فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه ، والجمع للعظمة والكبرياء ، وفيه من تعظيم أمر الإجابة ما فيه-{[3922]} ، لما أصر قوم نوح واستكبروا ونأوا عن توحيد الله الخلاق الرزاق ونهوا { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا . ولا يغوث ويعوق ونسرا . . }{[3923]} ، { . . قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا }{[3924]} { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر }{[3925]} .

{ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } حفظناه وأهل الإيمان به ، وأنقذناهم وسلمناهم من البلاء الشديد ، والغم الثقيل ، والإهلاك بالطوفان ، وسلمنا عقبه ومن تناسل ممن أنجيناهم في الفلك ، ووهبناهم الذرية التي عمرت بها الأرض بعد إغراق الكافرين ، { وتركنا عليه في الآخرين } أبقينا ثناء عليه في الباقين ، يمتد إلى يوم الدين ، قال ابن عباس : يذكر بخير . اه [ وقيل : { في الآخرين } أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في الأنبياء ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به ، قال الله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا . . }{[3926]} ]{[3927]} .

{ سلام على نوح في العالمين }-مبتدأ وخبر ، وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء . . . وقوله تعالى : { في العالمين } . . . من تتمة الجملة السابقة ، وجيء به للدلالة على الاعتناء التام بشأن السلام من حيث إنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين{[3928]} . . . - .

{ إنا كذلك نجزي المحسنين } مثل ذلك الجزاء الكريم الذي يطيب به الذكر على ألسن الملائكة والإنس والجن ، ويخلد الأثر بالذرية الطيبة ، إلى ما وعدوا به من بعد من درجات عالية ونعيم مقيم ، نجزي من صبر على الحق ، وجاهد في سبيله ، وبلغ رسالات ربه يخشاه ولا يخشى سواه .

مما جاء في جامع البيان : قوله : { إنا كذلك نجزي المحسنين } يقول تعالى ذكره : إنا كما فعلنا بنوح مجازة له على طاعتنا ، وصبره على أذى قومه في رضانا ، فأنجيناه وأهله من الكرب العظيم ، وجعلنا ذريته هم الباقين ، وأبقينا عليه ثناء في الآخرين كذلك نجزي الذين يحسنون فيطيعوننا ، وينتهون إلى أمرنا ، ويصبرون على الأذى فينا . فاستيقنوا معاشر الداعين إلى الله على هدى وبصيرة ، واستبشروا بوعد الملك الحق الذي ينجز ما وعد : { . . . ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا }{[3929]} ، [ وما فيه من معنى البعد-{ كذلك }-للإيذان بعلو رتبته ، وبعد منزلته في الفضل والشرف ، والكاف متعلقة بما بعدها ، أي : مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان لا جزاء أدنى منه ، وقوله تعالى : { إنه من عبادنا المؤمنين } تعليل لكونه عليه السلام مؤمنا ، المفهوم من الكلام بخلوص عبوديته ، وكمال إيمانه ، وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى . . ){[3930]} .

{ ثم أغرقنا الآخرين } { ثم } ذهب الطبري إلى أنها قد تعني الاقتران ، فيقول : ثم أغرقنا-حين نجينا نوحا وأهله من الكرب العظيم من بقي من قومه ، ويرى الألوسي أنها للتراخي الذكرى إذ بقاؤه عليه السلام ومن معه متأخر عن الإغراق ، بينما يقول القرطبي : و{ ثم } ليست للتراخي هاهنا ، بل هو لتعديد النعم ، كقوله : { أو مسكينا ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا . . }{[3931]} أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين ، وهم الذين تأخروا عن الإيمان . اه .


[3922]:ما بين العارضتين مما أورد صاحب روح المعاني.
[3923]:سورة نوح.الآية 23ومن الآية 24.
[3924]:سورة نوح.من الآية 26 والآية27.
[3925]:سورة القمر.الآية 10.
[3926]:سورة الشورى.من الآية 13.
[3927]:ما بين العلامتين[ ] مما أورد القرطبي.
[3928]:الجن والإنس.
[3929]:سورة النور من الآية55.
[3930]:مابين العلامتين[ ]مما أورد الألوسي.
[3931]:سورة البلد.الآية 16 والآية 17.