في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ} (16)

15

( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ، وما ذلك على الله بعزيز ) . .

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات الى نور الله وهداه . في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله . وأن الله غني عنهم كل الغنى . وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم ، وهو المحمود بذاته . وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض ، فإن ذلك عليه يسير . .

الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله - جل وعلا - يعنى بهم ، ويرسل إليهم الرسل ؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة الى الهدى ، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى ! والله هو الغني الحميد .

وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته ، ويفيض عليهم من رحمته ، ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم ، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء . . إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً . لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته . لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم ، أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم . ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال ، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل .

وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه ، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر ، الضعيف العاجز ، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل !

والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض . والأرض تابع صغير من توابع الشمس . والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم . والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده . وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله !

ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية . . ينشئه ، ويستخلفه في الأرض ، ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره . فيرسل الله إليه الرسل ، رسولاً بعد رسول ، وينزل على الرسل الكتب والخوارق . ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس ، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم ، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ، ومن عجز وضعف ، بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات ، فيقول لهذا : أنت فعلت وأنت تركت ، ويقول لذاك : هاك حلاً لمشكلتك ، وهاك خلاصاً من ضيقتك !

كل ذلك ، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض ، التابعة الصغيرة من توابع الشمس ، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! والله - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض ، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة . بمجرد توجه الإرادة . وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة . .

والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته ، وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران .

فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ، الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة . والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر ، لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ، ولأنه هو الحق وبالحق نزل . فلا يتحدث إلا بالحق ، ولا يقنع الا بالحق ، ولا يعرض إلا بالحق ، ولا يشير بغير الحق . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ} (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ * وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىَ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ إِنّمَا تُنذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَمَن تَزَكّىَ فَإِنّمَا يَتَزَكّىَ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } .

يقول تعالى ذكره : إن يشأ يُهلككم أيها الناس ربكم ، لأنه أنشأكم من غير ما حاجة به إليكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يقول : ويأت بخلق سواكم يُطيعونه ، ويأتمرون لأمره ، وينتهون عما نهاهم عنه ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ : أي ويأت بغيركم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن يشأ يذهبكم} أيها الناس بالهلاك إذا عصيتم.

{ويأت بخلق جديد} غيركم أمثل منكم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن يشأ يُهلككم أيها الناس ربكم، لأنه أنشأكم من غير ما حاجة به إليكم، "ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ "يقول: ويأت بخلق سواكم يُطيعونه، ويأتمرون لأمره، وينتهون عما نهاهم عنه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} بيانا لغناه، وفيه بلاغة كاملة، وبيانها أنه تعالى قال: {إن يشأ يذهبكم} أي ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته، ثم إنه تعالى زاد بيان الاستغناء بقوله:

{ويأت بخلق جديد} يعني إن كان يتوهم متوهم أن هذا الملك له كمال وعظمة؛ فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته، فهو قادر بأن يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا وأجمل وأتم وأكمل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فأنتج ذلك قطعاً، تهديداً لمن عصاه وتحذيراً شديداً: {إن يشأ يذهبكم} أي جميعاً. {ويأت بخلق جديد}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يحتمل أن المراد بذلك، إثبات البعث والنشور، وأن مشيئة اللّه تعالى نافذة في كل شيء، وفي إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا، ولكن لذلك الوقت أجل قدره اللّه، لا يتقدم عنه ولا يتأخر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

واقع موقع البيان لما تضمنته جملة {وهو الغني الحميد} [فاطر: 15] من معنى قلة الاكتراث بإعراضهم عن الإِسلام، ومن معنى رضاه على من يعبده، فهو تعالى لغناه عنهم وغضبه عليهم، لو شاء لأبادهم وأتى بخلق آخرين يعبدونه، فخلصَ العالَم من عصاة أمر الله، وذلك في قدرته؛ ولكنه أمهلهم إعمالاً لصفة الحلم.

فالمشيئة هنا المشيئة الناشئة عن الاستحقاق، أي أنهم استحقوا أن يشاء الله إهلاكهم ولكنه أمهلهم، لا أصل المشيئة التي هي كونه مختاراً في فعله لا مُكره له لأنها لا يحتاج إلى الإِعلام بها.

والإِذهاب مستعمل في الإِهلاك، أي الإِعدام من هذا العالم، أي إن يشأ يسلط عليهم موتاً يعمهم فكأنه أذهبهم من مكان إلى مكان؛ لأنه يأتي بهم إلى الدار الآخرة. والإِتيان بخلق جديد مستعمل في إحداث ناس لم يكونوا موجودين ولا مترقباً وجودهم، أي يوجد خلقاً من الناس يؤمنون بالله، فالخلق هنا بمعنى المخلوق وهذا في معنى قوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالَكم}

[محمد: 38].

وليس المعنى: أنه إن يشأ يعجلْ بموتهم فيأتي جيل أبنائهم مؤمنين لأن قوله: {وما ذلك على الله بعزيز} ينبُو عنه...