ثم بين - سبحانه - طعام أهل النار وحالهم يوم القيامة فقال : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم } .
والمراد بشجرة الزقوم : الشجرة التى خلقها الله - تعالى - فى جهنم ، وسماها الشجرة الملعونة ، ليكون طعام أهل النار منها .
ولفظ الزقوم : اسم لتلك الشجرة ، أو من الزقم بمعنى الالتقام والابتلاع للشيء .
والأثيم : الكثير الآثام والسيئات . والمراد به الكافر لدلالة ما قبله عليه .
والمهل : هو النحاس المذاب ، أو ردئ الزيت الحار .
أي : إن الشجرة المعلونة التى هي شجرة الزقوم ، خلقها الله - تعالى - لتكون طعاما للإِنسان الكافر ، الكثير الآثام والجرائم . .
فتنزل فى بطنه كما ينزل النحاس الجار المذاب ، فيغلى فيها كغلي الماء البالغ نهاية الحرارة .
وقوله : كالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ يقول تعالى ذكره : إن شجرة الزقوم التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم ، كالرصاص أو الفضة ، أو ما يُذاب في النار إذا أُذيب بها ، فتناهت حرارته ، وشدّت حميته في شدّة السواد .
وقد بيّنا معنى المهل فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من الشواهد ، وذكر اختلاف أهل التأويل فيه ، غير أنا نذكر من أقوال أهل العلم في هذا الموضع ما لم نذكره هناك :
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس ، عن قول الله جلّ ثناؤه : كالمُهْلِ قال : كدرديّ الزيت .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ يقول : أسود كمهل الزيت .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ويعقوب بن إبراهيم ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مطرفا ، عن عطية بن سعد ، عن ابن عباس ، في قوله : كالمُهْلِ ماء غليظ كدرديّ الزيت .
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا شريك ، عن مطرّف ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : كالمُهْلِ قال : كدرديّ الزيت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا خليد ، عن الحسن ، عن ابن عباس ، أنه رأى فضة قد أُذيبت ، فقال : هذا المهل .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا عمرو بن ميمون عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله : كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوه قال : دخل عبد الله بيت المال ، فأخرج بقايا كانت فيه ، فأوقد عليها النار حتى تلألأت ، قال : أين السائل عن المهل ، هذا المهل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ : وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن ابن مسعود سُئل عن المهل الذي يقولون يوم القيامة شراب أهل النار ، وهو على بيت المال ، قال : فدعا بذهب وفضة فأذابهما ، فقال : هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو لون السماء يوم القيامة ، وشراب أهل النار ، غير أن ذلك هو أشدّ حرّا من هذا ، لفظ الحديث لابن بشار وحديث ابن المثنى نحوه .
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الحسن ، قال : كان من كلامه أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن عمر رضي الله عنه استعمله على بيت المال ، قال : فعمد إلى فضة كثيرة مكسرة ، فخدّ لها أُخدودا ، ثم أمر بحطب جزل فأوقد عليها ، حتى إذا امّاعت وتزبدت وعادت ألوانا ، قال : انظروا من بالباب ، فأُدخل القوم فقال لهم : هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمُهْل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعامُ الأثِيمِ . . . الآية ، ذُكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخدّت في الأرض ، ثم قُذِف فيها من جزل الحطب ، ثم قذفت فيها تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من بحضرتنا من أهل الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا قال : أترون هذا ؟ قالوا نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من الذهب والفضة حين أزبد وانماع .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن سفيان الأسديّ ، قال : أذاب عبد الله بن مسعود فضة ، ثم قال : من أراد أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : يَوْمَ تَكُونُ السّماءُ كالمُهْلِ قال : كدُرديّ الزيت .
حدثني يحيى بن طلحة قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : كالمهل قال : كدردي الزيت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : حدثنا أبو الصباح ، قال : سمعت يزيد بن أبي سمية يقول : سمعت ابن عمر يقول : هل تدرون ما المهل ؟ المهل مهل الزيت ، يعني آخره .
قال : ثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا أبو الصباح الأيلي ، عن يزيد بن أبي سمية ، عن ابن عمر بمثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن درّاج أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : بِمَاءٍ كالمُهْلِ «كعَكر الزيت ، فإذا قرّبه إلى وجهه ، سقطت فروة وجهه فيه » .
قال : ثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
وقوله : فِي البُطُونِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة «تَغْلِي » بالتاء ، بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في بطونهم ، فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة يَغْلِي بمعنى : طعام الأثيم يغلي ، أو المهل يغلي ، فذكّره بعضهم لتذكير الطعام ، ووجه معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل ، ووجهه إلى أنه صفة للمهل الذي يغلي .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب كَغَلْي الحَمِيمِ يقول : يغلي ذلك في بطون هؤلاء الأشقياء كغلي الماء المحموم ، وهو المسخن الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدّة حرّه ، وقيل : حميم وهو محموم ؛ لأنه مصروف من مفعول إلى فعيل ، كما يقال : قتيل من مقتول .
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما : «المهل » : دردي الزيت وعكره . وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : «المهل » ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه . قال الحسن : كان ابن مسعود على بيت المال لعمر بالكوفة ، فأذاب يوماً فضة مكسرة ، فلما انماعت ، قال : يدخل من بالباب ، فدخلوا ، فقال لهم : هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل . والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد .
والمُهل بضم الميم دُرْدِيُّ الزيت . والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه .
و{ الحميم } : الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه ، وتقدم عند قوله تعالى : { لهم شرابٌ من حميم } في سورة الأنعام ( 70 ) . ووجه الشبه هو هيئة غليانه .
وقرأ الجمهور { تغلي } بالتاء الفوقية على أن الضمير ل { شجرة الزقوم } . وإسناد الغليان إلى الشجَرَةِ مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها . وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المُهل .
والغليان : شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال : غلي الماء وغلت القدر ، قال النابغة :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كالمهل} يعني الزقوم أسود غليظ كدردي الزيت، {يغلي في البطون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ" يقول تعالى ذكره:إن شجرة الزقوم التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم، كالرصاص أو الفضة، أو ما يُذاب في النار إذا أُذيب بها، فتناهت حرارته، وشدّت حميته في شدّة السواد.
"فِي البُطُونِ "اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة «تَغْلِي» بالتاء، بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في بطونهم، فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة.
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة "يَغْلِي" بمعنى: طعام الأثيم يغلي، أو المهل يغلي، فذكّره بعضهم لتذكير الطعام، ووجه معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل، ووجهه إلى أنه صفة للمهل الذي يغلي.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل تشبيهُها بالمُهل لوجهين:
أحدهما لالتصاقه بالبدن، لأنه قيل: إنه ألصق الأشياء بالبدن.
والثاني: يحتمل أن يشبّهها بذلك لكثرة تلوّنها وتغيُّرها من حال إلى حال.
ثم الإشكال أنه ليس في أكل دُرديّ الزيت فضل شدّة وكثرة مُؤنة، فما معنى التشبيه به؟ لكن نقول: إنه بيّن أن ذلك المهل والدّرديّ من النار حين قال: {كالمُهل يغلي في البطون} {كغلي الحميم}.
ثم الإشكال: أن شجرة الزّقوم كيف تكون للأثيم؟ فيحتمل ذلك وجهين:
أحدهما أنه يخرُج منها شيء، ويسيل، فيسقي ذلك الكافر.
والثاني: يحتمل أنها تُؤكَل كما هي، فتذوب في بطنه، فتغلي، فيكون ما ذُكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
شبه ذلك بأنه مثل المهل، وهو الشيء الذي يذاب في النار حتى يشتد حره كالفضة والرصاص وغيرهما مما يماع بالنار، وهو مهل؛ لأنه يمهل في النار حتى يذوب...
ثم وصف المهل بأنه "يغلي في البطون "والغلي ارتفاع المائع من الماء ونحوه بشدة الحرارة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المُهل: التشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه.