تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (171)

نصر المرسلين

{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإنا جندنا لهم الغالبون ( 173 ) فتولى عنهم حتى حين ( 174 ) وأبصرهم فسوف يبصرون ( 175 ) أفبعذابنا يستعجلون ( 176 ) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ( 177 )وتولى عنهم حتى حين ( 178 ) وأبصر فسوف يبصرون ( 179 ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( 180 ) وسلام على المرسلين ( 181 )والحمد لله رب العالمين ( 182 ) }

المفردات :

كلمتنا : وعدنا الرسل بالنصر ، مثل : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . . . } [ المجادلة : 21 ] . وقد تم فتح مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .

التفسير :

171 ، 172 ، 173 – { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإنا جندنا لهم الغالبون } .

وعد الله المؤمنين بالنصر ، وحسن الخاتمة ، وقد يُهزم المؤمنون في معركة ، وقد يمتحنون في موقف ، لكن الله وعد الصادقين بالجزاء الحسن في الدنيا ، أو الآخرة ، فإن استشهدوا فلهم حسن الجزاء في الآخرة ، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهي أن العاملين المخلصين يستحقون النصر .

قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } . [ المجادلة : 21 ] .

وقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } . [ غافر : 51 ] .

وتاريخ الكفاح بين المسلمين في مكة مع المشركين يثبت ذلك ، حيث مكث الرسول صلى الله عليه في مكة ثلاثة عشر عاما ، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة ، ثم رحل إلى المدينة ووضع أساس الدولة ، وخاض غزوات بدر وأحد والخندق والحديبية ، ثم فتحت مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، واستمرّ المدُّ الإسلامي في غزوتي حنين والطائف . وغزوة تبوك ، وحروب الردّة ، ثم فتح المسلمون بلاد فارس والروم ومصر وشمال أفريقيا ، وقد أصاب المسلمين ليل طويل ، وظلام دامس ، فسقطت بغداد في يد التتار سنة 656 ه ، واستولى الضعف والعجز على كثير من البلاد الإسلامية ، لكن ذلك لم يمنع المسلمين من أن يهبّوا في معركة عين جالوت ، حيث هزموا التتار ، وأعادوهم ناكصين على أعقابهم ، ثم دخل التتار في الدين الإسلامي .

ثم كانت الحروب الصليبية ، التي أعقبها تقدم صلاح الدّين بجيش يجمع رجال مصر والشام ، وانتصر في معركة حطين ، ودخل المسجد الأقصى ، وحمد الله حمدا كثيرا .

وفي عصرنا الحاضر نجد المعارك دائرة بين الإسلام والصهيونية وغيرها ، وإذا تأملنا وجدنا أن أقوى أسلحة الأمة هو ما يأتي :

1- التزامها بدينها وصدق إيمانها وطاعة ربّها .

2- ترك الفرقة والاختلاف والبعد عن النزاع والتخاصم .

3- الوحدة وضم الصف وجمع الكلمة .

4- إعداد العدّة بالعلم والعمل والتفوق العلمي الحضاري .

لقد نصر الله أنبياءه ورسله مثل : إبراهيم ، ونوح ، ويونس ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهزم الكافرين المعاندين .

وإن أعدى أعدائنا هو الذي يلهينا عن عقيدتنا ، وإن باب النصر في التمسك بهذه العقيدة ، والتمسك بسنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح ، والأخذ بنصيب وافر من العلوم والتقنية وكل أبواب التفوق ، وهذا هو الإعداد الجيّد لأسباب النصر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

قال ابن كثير :

{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } .

أي : تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال جل جلاله .

{ إنهم لهم المنصورون } .

أي : في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ، ممن كذبهم وخالفهم ، كيف أهلك الله الكافرين ، ونجّى عباده المؤمنين .

{ وإن جندنا لهم الغالبون } . أي : تكون لهم العاقبة .

وهذا النصر للمؤمنين في أغلب الأحيان في الدنيا ، وباليقين والتأكيد في الآخرة ، لقد انهزم المؤمنون في غزوة أحد ، وكان ذلك درسا عمليا للمؤمنين في حياتهم ، وسلوكهم مع الهزيمة والنصر ، بالثبات واليقين والأمل ، وأن رحى الحرب دائرة ، يوم لك ويوم عليك ، وأن الجراح التي تصيبك والآلام تماثلها جراح سابقة ولاحقة عند الأعداء ، لكن العاقبة للمتقين ، والثواب للمؤمنين ، وإن لم تصادف النصر في الدنيا ، فستلقى الثواب وحسن الجزاء في الآخرة ، ورضوانا من الله أكبر .

قال النيسابوري :

ثم بين أنّ رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلا وأجلا ، والأول أكثر ، والثاني تحقيقي يقيني . ا ه .

وهو يقصد أن قوله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم أهم المنصورون * وإن جمدنا لهم الغالبون } .

أن النصر كان في الأكثر للمسلمين ، فقد انهزموا في بعض الغزوات ، وفي بعض المعارك ، لكن العاقبة كانت للمؤمنين ، فنصر المؤمنين في الدنيا كان هو الأعم الأغلب ، أمّا النصر في الآخرة فهو يقيني على التحقيق .

وكلّ ذلك يفتح الباب أمام الدعاة والهداة ، وقوى الأمة الإسلامية ورموزها وقادتها للأمل والعمل ، حتى لا تصاب الأمة بالإحباط والتردّي . نحن نشاهد الأمم الكبرى تتقدم علميا واقتصاديا ، لكن ذلك يوجب علينا ألا نيأس من المستقبل ، وأن نثق في قدرات أمّتنا على استعادة الكرّة .

وبعض علماء الاجتماع يذكرون أن التطوّر والتقدم دائري متحرّك ، تقدم المسلمون في عصر النبوة والعصر الأموي العباسّي الأول ، ثم تقهقروا ومرّ بهم ليل طويل ، تقدم فيه الغرب وأمريكا وروسيا ، ثم تضعضعت روسيا وتفككت ، وليس ببعيد أن تعود الكرّة للعالم العربي والإسلامي لاسترداد المجد ، والتفوق والتقدم ، بيد أن ذلك مرهون بالأخذ بالأسباب ، وبالعمل والأمل ، وبالتوكل لا بالتواكل ، والتوكل هو الأخذ بالأسباب ، ثم الاعتماد على الله تعالى .

قال تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } . [ الجمعة : 10 ] .

وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } . [ الكهف : 30 ] .

وقال صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " {[564]} .

ويقول تعالى : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } . [ يوسف : 87 ] .

فعلينا أن نحارب اليأس والقنوط ، وأن نزرع الأمل وحبّ العمل ، والاستشراف لمستقبل أفضل ، ولا يشترط أن نجني نحن ثمار النصر ، يكفي أن نعمل وأن نبني ، وأن تُكمل الأجيال القادمة ما وضعنا أساسه وأقمنا أصوله .

قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة يَغْرسها فليغرسها " {[565]} .

وهذا الحديث يحثنا على العمل والأمل في سائر الأحوال والظروف ، ودائما يعقب الليل ظهور الفجر ، وأنوار الصباح ، وقد انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية ، وكذلك اليابان ، لكن الإصرار والعمل والأمل ، والرغبة في التفوّق ، جعلهما يستعيدان المجد والمكانة ، ونحن أولى بالأمل في وجه الله القائل : { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } . [ الشرح : 5 ، 6 ] .

ويقول تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما } . [ النساء : 104 ] .

ويقول تعالى : { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا إنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } . [ يوسف : 110 ] .

وفي التفسير : إن الله يمتحن المؤمنين بالشدّة والبلاء ، تلك سنته في عباده ، قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } . [ البقرة : 214 ] .

فلله حكمة سامية في اختبار المرسلين ، واختبار عباده المؤمنين ، حتى إذا طال الظلام ، واشتدت عوامل اليأس ، ومرت بعض لحظات من الخوف والتوجُّس ، ومرّت ولو لبرهة لحظات اليأس أو الخوف من تخلّف النصر ، أو تكذيب الأتباع أنفسهم ، عند هذه الشدّة يأتي نصر الله ووعده الصادق في نصر المؤمنين ، وهزيمة المجرمين المكذّبين .

وصدق الله العظيم : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } .


[564]:ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده: رواه البخاري في البيوع (2073) وفي أحاديث الأنبياء (3417) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن داود النبي عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده" ورواه البخاري في البيوع (2072) من حديث المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده "
[565]:إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة: رواه أحمد في مسنده (12569) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل "