{ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أى : على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما . . أو على أن نبدل ذواتهم ، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذى هو عليه . . فإن قدرتنا لا يعجزها شئ .
وقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معطوف على جواب القسم ومؤكد له . أى : إنا لقادرون على ذلك ، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد . إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } وقوله - سبحانه - { . . . وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } ، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شئ .
واستطرادا في تهوين أمرهم ، وتصغير شأنهم ، وتنكيس كبريائهم ، يقرر أن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم :
( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ) .
والأمر ليس في حاجة إلى قسم . ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب ، يوحي بعظمة الخالق . والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح . كما أنها قد تعني المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الأرض . وهي تتوالى في كل لحظة . ففي كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب . . .
وأيا كان مدلول المشارق والمغارب ، فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود ، وبعظمة الخالق لهذا الوجود . فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب ، على أنه - سبحانه - قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وأنهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ولا يهربون من مصيرهم المحتوم ? ! .
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ } أي : يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه ، فإن قدرته صالحة لذلك ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بعاجزين . كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 3 ، 4 ] . وقال تعالى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 6 ، 61 ] .
واختار ابن جرير { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ } أي : أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها ، كقوله : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] . والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأُخَر عليه ، والله أعلم .
يقول تعالى ذكره : فلا أقسم بربّ مشارق الأرض ومغاربها إنّا لَقادِرُونَ على أنْ نُبَدّلَ خَيْرا مِنْهُمْ يقول : إنا لقادرون على أن نهلكهم ، ونأتي بخير منهم من الخلق يطيعونني ولا يعصونني وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ يقول تعالى ذكره : وما يفوتنا منهم أحد بأمر نريده منه ، فيعجزنا هربا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا علية ، قال : أخبرنا عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : إن الشمس تطلع كلّ سنة في ثلاث مئة وستين كوّة ، تطلع كلّ يوم في كوّة ، لا ترجع إلى تلك الكوّة إلى ذلك اليوم من العام المقبل ، ولا تطلع إلا وهي كارهة ، تقول : ربّ لا تطلعني على عبادك ، فإني أراهم يعصونك ، يعملون بمعاصيك أراهم ، قال : أو لم تسمعوا إلى قول أمية بن أبي الصلت :
قلت : يا مولاه وتجلد الشمس ؟ فقال : عَضَضْتَ بِهَنِ أبيك ، إنما اضطره الرويّ إلى الجلد .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عمارة ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس في قول الله : رَبّ المَشارِقِ والمَغارِبِ قال : إن الشمس تطلع من ثلاث مئة وستين مطلعا ، تطلع كلّ يوم من مطلع لا تعود فيه إلى قابل ، ولا تطلع إلا وهي كارهة ، قال عكرِمة : فقلت له : قد قال الشاعر :
قال : فقال ابن عباس : عضِضت بهن أبيك ، إنما اضطره الرويّ .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرنا عمارة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : إن الشمس تطلع في ثلاث مئة وستين كوّة ، فإذا طلعت في كوّة لم تطلع منها حتى العام المقبل ، ولا تطلع إلا وهي كارهة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَلا أُقْسِمُ بِرَبّ المَشارَقِ وَالمَغارِبِ قال : هو مطلع الشمس ومغربها ، ومطلع القمر ومغربه .
وقوله : { على أن نبدل خيراً منهم } يحتمل معنيين : أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيراً منهم ، أي نبدل ذواتهم خلقاً خيراً من خلْقهم الذي هم عليه اليوم . والخيرية في الإِتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقاً أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود ، وكان الخلْق الأول مناسباً لعالم التغير والفناء ، وعلى هذا الوجه يكون { نُبدِّلَ } مضمناً معنى : نعوّض ، ويكون المفعول الأول ل { نبدل } ضميراً مثل ضمير { منهم } أي نبدلهم والمفعولُ الثاني { خيراً منهم } .
و ( مِن ) تفضيلية ، أي خيراً في الخلقة ، والتفضيلُ باعتبار اختلاف زمانَي الخلْق الأول والخلق الثاني ، أو اختلاففِ عالميهما .
والمعنى الثاني : أنْ نبدل هؤلاء بخير منهم ، أي بأمَّة خير منهم ، والخيرية في الإيمان ، فيكون { نبدل } على أصل معناه ، ويكون مفعوله محذوفاً مثل ما في المعنى الأول ، ويكون { خيراً } منصوباً على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [ البقرة : 61 ] ، ويكون هذا تهديداً لهم بأنْ سيستأصلهم ويأتيَ بقوم آخرين كما قال تعالى : { إن يشا يذهبكم ويأتتِ بخلق جديد } [ فاطر : 16 ] وقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] .
وفي هذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم .
وذيل بقوله : { وما نحن بمسبوقين ، } والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره ، شبه بالمسبوق في الحلبة ، أو بالمسبوق في السير ، وقد تقدم في قوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } [ العنكبوت : 4 ] ، ومنه قول مرة بن عَدَّاء الفقعسي :
كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنتَ تطلُب
يريد : كأنك لم تُغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك .
و { على أن نبدل خيراً منهم } مُتعلق ب { مسبوقين } ، أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة ( 61 ) إنا لقادرون { على أن نبدل أمثالكم } .