القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّمَا أمْرهُ إذَا أرَادّ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوَ لَيْسَ الّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرْضَ بقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاّقُ العَلِيمُ قال : هذا مثل إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، قال : ليس من كلام العرب شيء هو أخفّ من ذلك ، ولا أهون ، فأمر الله كذلك .
{ إنما أمره } إنما شأنه . { إذا أراد شيئا أن يقول له كن } أي تكون . { فيكون } فهو يكون أي يحدث ، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة ، وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق ، ونصبه ابن عامر والكسائي عطفا على { يقول } .
ورفع «يكونُ » على معنى فهو يكون ، وهي قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكونَ » بالنصب ، قال أبو علي : لا ينصب الكسائي إذا لم تتقدم «أن » وينصب ابن عامر وإن لم تتقدم «أن » ، والنصب ها هنا قراءة ابن محيصن وقول تعالى : { كن } أمر للشيء المخترع عند تعلق القدرة به لا قبل ذلك ولا بعده ، وإنما يؤمر تأكيداً للقدرة وإشارة بها{[2]} ، وهذا أمر دون حروف ولا أصوات بل من كلامه القائم بذاته لا رب سواه .
هذه فذلكة الاستدلال ، وفصل المقال ، فلذلك فصلت عما قبلها كما تفصل جملة النتيجة عن جملتي القياس ، فقد نتج مما تقدم أنه تعالى إذا أراد شيئاً تعلّقت قدرتُه بإيجاده بالأمر التكويني المعبر عن تقريبه ب { كُن } وهو أخصر كلمة تعبر عن الأمر بالكون ، أي الاتصاف بالوجود .
والأمر في قوله : { إنَّما أمرُهُ } بمعنى الشأن لأنه المناسب لإِنكارهم قدرته على إحياء الرميم ، أي لا شأن لله في وقت إرادته تكوين كائن إلا تقديره بأن يوجده ، فعبر عن ذلك التقدير الذي ينطاع له المقدور بقول : { كُن } ليعلم أن لا يباشر صنعه بيد ولا بآلة ولا بعَجن مادة مَا يخلق منه كما يفعل الصنّاع والمهندسون ، لأن المشركين نشأ لهم توّهم استحالة المعاد من انعدام المواد فضلاً عن إعدادها وتصويرها ، فالقصر إضافي لقلب اعتقادهم أنه يحتاج إلى جمْع مادة وتكييفها ومُضيّ مدة لإِتمامها .
و { إذا } ظرف زمان في موضع نصب على المفعول فيه ، أي حين إرادته شيئاً .
وقرأ الجمهور { فَيَكُونُ } مرفوعاً على تقدير : أن يقولَ له كن فهو يكون . وقرأه ابن عامر والكسائي بالنصب عطفاً على { يَقُولَ } المنصوب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما أمره إذا أراد شيئا} أمر البعث وغيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... عن قتادة:"إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون"، قال: ليس من كلام العرب شيء هو أخفّ من ذلك، ولا أهون، فأمر الله كذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنما أمره إذا أراد شيئا} يحتمل إنما حاله {إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} كل ما كان ويكون أبد الآبدين إنما يكون ب {كن} الذي كان من غير أن كان منه كاف ونون {فيكون} أو شيء من ذلك، إنما هو إخبار عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته، أو إخبار عن خفّة ذلك عليه.
يقول، والله أعلم: كما لا يثقل عليكم قول {كن} فعلى ذلك لا يثقل على الله ابتداء خلق ولا إعادته ولا شيء من ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} إنما شأنه {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه ولا صارف.
{أَن يَقُولَ لَهُ كُن} أن يكونه من غير توقف.
{فَيَكُونُ} فيحدث، أي: فهو كائن موجود لا محالة.
فإن قلت: ما حقيقة قوله: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}؟ قلت: هو مجاز من الكلام وتمثيل؛ لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع...
والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئاً مما تقدر عليه، من المباشرة بمحال القدرة، واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب؛ إنما أمره وهو القادر العالم لذاته، أن يخلص داعيه إلى الفعل، فيتكون، فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كن} أمر للشيء المخترع عند تعلق القدرة به لا قبل ذلك ولا بعده، وإنما يؤمر تأكيداً للقدرة وإشارة بها.
وهذا أمر دون حروف ولا أصوات، بل من كلامه القائم بذاته لا رب سواه.
هذا إظهار فساد تمثيلهم وتشبيههم وضرب مثلهم حيث ضربوا لله مثلا، وقالوا لا يقدر أحد على مثل هذا قياسا للغائب على الشاهد، فقال في الشاهد الخلق يكون بالآلات البدنية والانتقالات المكانية ولا يقع إلا في الأزمنة الممتدة، والله يخلق بكن فيكون، فكيف تضربون المثل الأدنى وله المثل الأعلى من أن يدرك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا أراد شيئاً} أي إيجاد شيء من جوهر أو عرض أيّ شيء كان.
{فيكون} أي من غير مهلة أصلاً على وفق ما أراد.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الظاهر أن هناك قولاً لفظياً هو لفظ كن، وإليه ذهب معظم السلف، وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام، فدع عنك الكلام والخصام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إعادته للأموات، فرد من أفراد [آثار] خلقه، ولهذا قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} نكرة في سياق الشرط، فتعم كل شيء.
{أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: في الحال من غير تمانع.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الله -سبحانه- يخلق هذا وذلك ويخلق غيرهما بلا كلفة ولا جهد. ولا يختلف بالقياس إليه خلق الكبير وخلق الصغير:
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون).. يكون هذا الشيء سماء أو أرضا. ويكون بعوضة أو نملة. هذا وذلك سواء أمام الكلمة.. كن.. فيكون! ليس هناك صعب ولا سهل. وليس هنالك قريب ولا بعيد.. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده كائنا ما يكون. إنما يقرب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه فذلكة الاستدلال، وفصل المقال، فلذلك فصلت عما قبلها كما تفصل جملة النتيجة عن جملتي القياس، فقد نتج مما تقدم أنه تعالى إذا أراد شيئاً تعلّقت قدرتُه بإيجاده بالأمر التكويني المعبر عن تقريبه ب {كُن} وهو أخصر كلمة تعبر عن الأمر بالكون، أي الاتصاف بالوجود.
والأمر في قوله: {إنَّما أمرُهُ} بمعنى الشأن؛ لأنه المناسب لإِنكارهم قدرته على إحياء الرميم، أي لا شأن لله في وقت إرادته تكوين كائن إلا تقديره بأن يوجده، فعبر عن ذلك التقدير الذي ينطاع له المقدور بقول: {كُن}؛ ليعلم أن لا يباشر صنعه بيد ولا بآلة ولا بعَجن مادة مَا يخلق منه كما يفعل الصنّاع والمهندسون؛ لأن المشركين نشأ لهم توّهم استحالة المعاد من انعدام المواد فضلاً عن إعدادها وتصويرها، فالقصر إضافي لقلب اعتقادهم أنه يحتاج إلى جمْع مادة وتكييفها ومُضيّ مدة لإِتمامها.
و {إذا} ظرف زمان في موضع نصب على المفعول فيه، أي حين إرادته شيئاً.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} هنا إشارة لطيفة من الحق سبحانه لكل مُكذِّب بالبعث، كأن الله يقول لهم: يا مَنْ تكذِّبون بقدرة الله على بَعْث العظام التي رمَّتْ، أتظنون أن الله يخلق بعلاج كما تخلقون أنتم، الله الخالق لا يخلق بعلاج، وإنما يخلق بكلمة (كُنْ)، بل يخلق سبحانه بمجرد مراده، فإنْ أراد شيئاً كان، دون أنْ يقول، ودون أنْ يأمر، وما كلمة (كُنْ) إلا لتقريب المسألة إلى أذهاننا.
وسبق أنْ أوضحنا هذه العملية بمثال، ولله المثل الأعلى، قلنا: كيف تنكر أيها الإنسان قدرة الله، وقد أفاض عليك بمثلها في ذات نفسك، فأنت مثلاً حينما تريد أنْ تقوم من مجلسك، ماذا تفعل؟ هل أمرتَ العضلات أنْ تتحرك، بل هل تعرف أصلاً ما هي العضلات التي تقيمك، وما الأعصاب التي تتحكم في هذه العملية؟
إنك تقوم بمجرد إرادتك للقيام وليس لك دَخْل فيها، بدليل أن الطفل الصغير الذي لا يعرف عن تكوين جسمه شيئاً يقوم إذا أراد القيام، فإذا كنتَ أنت أيها الإنسان تنفعل لك الأشياء دون أنْ تقولَ لها انفعلي، فهل يليق بك أنْ تُكذِّب بهذا في حق ربك وخالقك؟
فإنْ قُلْتَ: فلماذا لا آمر أعضائي وأقول لها: اعملي كذا وكذا؟ نقول: الحق سبحانه يقول للشيء كُنْ لأنه سبحانه يعلم أن الأشياء ستأتمر بأمره، ولن تخرج عن مراده، إنما هل أنت واثق أنها ستأتمر بأمرك إنْ أمرتها؟ إنك لا تثق بهذه المسألة بدليل أن الله تعالى حين يسلب الإنسان هذه القدرة تخرج أعضاؤه عن طاعته، فيريد أنْ يقوم فلا يستطيع، تشل الأعضاء فلا تتحرك.
إذن، نقول: إذا كان المخلوق مجرد إرادته تسيطر على جوارحه، فهل نستبعد أن تكون إرادة الخالق الأعلى تسيطر على هذا الكون المخلوق له سبحانه؟
وكلمة (كُنْ) يقولها الله ليقرِّب لنا فَهْم المسألة، ويقولها لأن الأشياء لا تتخلف أبداً عن طاعته والانفعال لأمره، إنما أنت إنْ قُلْتها فلن يسمعك أحد؛ لذلك قال سبحانه موضحاً استجابة الأرض لأمره سبحانه:
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] أي: حَقَّ لها أنْ تسمع، وأنْ تطيع.
ومعنى {أَن يَقُولَ لَهُ} أي: للشيء الذي لم يُوجد بَعْد، فكيف أذن يخاطبه وهو ما يزال غَيْباً، قالوا: الخالق سبحان خلق كل الأشياء أزلاً في عالم اسمه "عالم المثال"، فالأشياء موجودة بالفعل، لكن تنتظر الأمر بالظهور والخروج إلى عالم الوجود؛ لذلك قال أحد العارفين: أمور يُبديها ولا يبتديها.