التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا} (5)

ثم قصت علينا الآيات الكريمة بعد ذلك ، ما قاله نوح لربه . على سبيل الشكوى والضراعة ، وما وجهه إلى قومه من نصائح فيها ما فيها من الترغيب والترهيب ، ومن الإِرشاد الحكيم ، والتوجيه السديد . . قال - تعالى - :

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي . . . } .

قوله - تعالى - : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } بيان للطرق والمسالك التى سلكها نوح مع قومه ، وهو يدعوهم إلى أخلاص العبادة لله - تعالى - بحرص شديد ومواظبة تامة . . وموقف قومه من دعوته لهم .

والمقصود بهذا الخبر لازم معناه ، وهو الشكاية إلى ربه ، والتمهيد لطلب النصر منه - تعالى - عليهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه أن نوحا - عليه السلام - لم يقصر فى تبليغ رسالته .

أى : قال نوح متضرعا إلى ربه : يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر فى دعوة قومى إلى عبادتك ، تارة بالليل وتارة بالنهار ، من غير فتور ولا توان .

{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي } لهم إلى عبادتك وطاعتك { إِلاَّ فِرَاراً } أى : إلا تباعدا من الإِيمان وإعراضا عنه . والفرار : الزَّوَغَان والهرب . يقال : فر فلان يفر فرارا ، فهو فرور ، إذا هرب من طالبه ، وزاغ عن عينه .

والتعبير بقوله : { دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم ، فى كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع .

كما أن التعبير بقوله : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته ، أى : فلم يزدهم دعائى شيئا من الهدى ، وإنما زادهم بُعْداً عنى ، وفرارا منى .

وإسناد الزيادة إلى الدعاء ، من باب الإِسناد إلى السبب ، كما فى قولهم : سرتنى رؤيتك ، وقوله { فِرَاراً } مفعول ثان لقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ } والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر ، أى : فلم يزدهم دعائى شيئا من أحوالهم التى كانوا عليها إلا الفرار .

ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا . أى : فلم يزدهم دعائى قرباً من الحق ، لكن زادهم فرارا منه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا} (5)

جرد فعل { قال } هنا ، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له { أنْذِر قومك } [ نوح : 1 ] عومل معاملة الجواب الذي يُتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) ، تنبيهاً على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله : { ليلاً ونهاراً } وحصول يأسه منهم ، فجعل مراجعته ربه بعد مهلة مستفادة من قوله : { لَيْلاً ونهاراً } بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورَيْن . ولك أن تجعل جملة { قال رب } الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع يترقب معرفة ماذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى .

وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر . وذلك ما سيفضي إليه بقوله : { وقال نوح رب لا تذَرْ على الأرض من الكافرين دياراً } الآيات [ نوح : 26 ] .

وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهارُ توكله على الله ، وانتصار الله له ، والإِتيانُ على مهمات من العبرة بقصته ، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له . وتلك ثمان مقالات هي :

1- { أن أنذر قومك } الخ [ نوح : 1 ] .

2- { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } الخ [ نوح : 2 ] .

3- { قال رب إني دعوت قومي } الخ [ نوح : 5 ] .

4- { فقلت استغفروا ربكم } الخ [ نوح : 10 ] .

5- { قال نوح رب إنهم عصوني } الخ [ نوح : 21 ] .

6- { ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً } الخ [ نوح : 24 ] .

7- { وقال نوح رب لا تذر على الأرض } الخ [ نوح : 26 ] .

8- { رب اغفر لي } الخ [ نوح : 28 ] .

وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم ، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار ، ومن أوقات الهدوّ وراحة البال وهي أوقات الليل .