وقوله : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلا } أي : لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض ، وبأعز ما يجده من المال ، ولو بملء الأرض ذهبًا ، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده ، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ، ولا يقبل منه . قال مجاهد والسدي : { فَصِيلَتِهِ } قبيلته وعشيرته . وقال عكرمة : فَخذه الذي هو منهم . وقال أشهب ، عن مالك : { فَصِيلَتِهِ } أمه .
يقول تعالى ذكره : يودّ الكافر يومئذٍ ويتمنى أنه يفتدى من عذاب الله إياه ذلك اليوم ببنيه وصاحبته ، وهي زوجته ، وأخيه وفصيلته ، وهم عشيرته التي تؤويه ، يعني التي تضمه إلى رحله ، وتنزل فيه امرأته ، لقربة ما بينها وبينه ، وبمن في الأرض جميعا من الخلق ، ثم ينجيه ذلك من عذاب الله إياه ذلك اليوم . وبدأ جلّ ثناؤه بذكر البنين ، ثم الصاحبة ، ثم الأخ ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذٍ من البلاء يفتدى نفسه ، لو وجد إلى ذلك سبيلاً بأحبّ الناس إليه ، كان في الدنيا ، وأقربهم إليه نسبا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوَدّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وأخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيه الأحبّ فالأحبّ ، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيهِ قال : قبيلته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَصَاحِبَتِهِ قال : الصاحبة الزوجة وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيِهِ قال : فصيلته : عشيرته .
والفصيلة : الأقرباء الأدْنَوْن من القبيلة ، وهم الأقرباء المفصول مِنهم ، أي المستخرج منهم ، فشملت الآباء والأمهاتتِ قال ابن العربي : قال أشهب : سألتُ مالكاً عن قول الله تعالى : { وفصيلته التي تؤويه } فقال هي أمه اه ، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم ، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب .
وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة .
ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصداً للإِيجاز .
والايواء : الضم والانحياز . قال تعالى : { ءاوَى إليه أخاه } [ يوسف : 69 ] وقال : { سآوي إلى جبل } [ هود : 43 ] .
و { التي تؤويه } : إن كانت القبيلةَ ، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر ، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئاً يومئذٍ .
وإن كانت الأمَّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي ، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] أي يودّ لو يفتدي بأمه ، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه ، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وفصيلته التي تؤويه} يعني رهطه وفخذه الأدنى الذي يساوى إليهم.
ابن العربي: قال أشهب: سألت مالكا عن قول الله تعالى: {وفصيلته} قال: هي أمه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يودّ الكافر يومئذٍ ويتمنى أنه يفتدى من عذاب الله إياه ذلك اليوم ببنيه وصاحبته، وهي زوجته، وأخيه وفصيلته، وهم عشيرته التي تؤويه، يعني التي تضمه إلى رحله، وتنزل فيه امرأته، لقربة ما بينها وبينه، وبمن في الأرض جميعا من الخلق، ثم ينجيه ذلك من عذاب الله إياه ذلك اليوم. وبدأ جلّ ثناؤه بذكر البنين، ثم الصاحبة، ثم الأخ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذٍ من البلاء يفتدى نفسه، لو وجد إلى ذلك سبيلاً بأحبّ الناس إليه، كان في الدنيا، وأقربهم إليه نسبا. عن قتادة، قوله:"يَوَدّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وأخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيه "الأحبّ فالأحبّ، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم. عن مجاهد، قوله: "وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيهِ" قال: قبيلته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 12]
{يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} {وصاحبته وأخيه} {وفصيلته التي تؤويه} {ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه} ففي هذا أن يستقبلهم في ذلك اليوم هول وفزع لم يكن بمثله عهد في الدنيا، ولا كان خطر ببالهم ذلك، لأن المرء لا يبلغ به الهول في الدنيا مبلغا يود أن يفتدي به ببنيه وصاحبته وأخيه وأقربائه وجميع من في الأرض. فيكون فيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ليحمل الناس على الإنابة إلى الله تعالى والانتهاء عما هم عليه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَفَصِيلَتِهِ} آبائه الأدنين... أقربائه الأقربين.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وفصيلته}... قال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة.
أحدهما: التي يأوي إليها في نسبه، قاله الضحاك.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الْفَصِيلَةُ فِي اللُّغَةِ عِنْدَهُمْ أَقْرَبُ من الْقَبِيلَةِ، وَأَصْلُ الْفَصِيلَةِ الْقِطْعَةُ من اللَّحْمِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْفَصِيلَةَ من فَصَلَ، أَيْ قَطَعَ، أَيْ مَفْصُولَةٌ كَالْأَكِيلَةِ من أَكَلَ، وَالْأَخِيذَةِ من أَخَذَ؛ وَكُلُّ شَيْءٍ فَصَلْتَهُ من شَيْءٍ فَهُوَ فَصِيلَةٌ؛ فَهَذَا حَقِيقَةٌ فِيهِ يَشْهَدُ لَهُ الِاشْتِقَاقُ. وَأَدْنَى الْفَصِيلَةِ الْأَبَوَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {خُلِقَ من مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ من بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}. وَقَالَ: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}؛ فَهَذَا هُوَ أَدْنَى الْأَدْنَى، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ تَفَطَّنَ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَحَبْرُ الْمِلَّةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} قَالَ: هِيَ أُمُّهُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَصْلِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: هِيَ عَشِيرَتُهُ، وَالْعَشِيرَةُ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَصِيلَةً فَإِنَّ الْفَصِيلَةَ الدَّانِيَةَ هِيَ الْأُمُّ، وَهِيَ أَيْضًا الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي من عَذَابِ يَوْمَئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ» فَذَكَرَ لِلْقَرَابَةِ مَعْنَيَيْنِ، وَخَتَمَهَا بِالْفَصِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ مِنْهُمْ، وَهِيَ الْأُمُّ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال: {وفصيلته} أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه {التي تؤويه *} أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه، لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها فهم أعظم الناس حقاً عليه وأعزهم لديه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 11]
وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض (يبصرونهم) كأنما عمدا وقصدا! ولكن لكل منهم همه، ولكل ضمير منهم شغله. فلا يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله، ولا أن يسأله عونه. فالكرب يلف الجميع، والهول يغشى الجميع.. فما بال (المجرم)؟ إن الهول ليأخذ بحسه، وإن الرعب ليذهب بنفسه، وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ بأعز الناس عليه، ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة، ويناضل عنهم، ويعيش لهم.. ببنيه. وزوجه. وأخيه، وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه. بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الإطلاق، فيود لو يفتدي بمن في الأرض جميعا ثم ينجيه.. وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات! صورة مبطنة بالهول، مغمورة بالكرب، موشاة بالفزع، ترتسم من خلال التعبير القرآني الموحي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفصيلة: الأقرباء الأدْنَوْن من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول مِنهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والأمهات قال ابن العربي: قال أشهب: سألتُ مالكاً عن قول الله تعالى: {وفصيلته التي تؤويه} فقال هي أمه اه، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب. وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة. ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصداً للإِيجاز. والايواء: الضم والانحياز. قال تعالى: {ءاوَى إليه أخاه} [يوسف: 69] وقال: {سآوي إلى جبل} [هود: 43]. و {التي تؤويه}: إن كانت القبيلةَ، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئاً يومئذٍ. وإن كانت الأمَّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} [الروم: 48] أي يودّ لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.