ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم ، بالإِشارة إلى قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملته ، فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا . . . }
موسى - عليه السلام - هو ابن عمران ، من نسل " لاوى " بن يعقوب .
ويرى بعض المؤرخين أو ولادة موسى كانت فى حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وأن بعثته كانت فى عهد منفتاح بن رمسيس الثانى .
والمراد بالآيات : الآيات التسع المشار إليه فى قوله - تعالى - " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات . . . "
وهى : العصا ، واليد والبيضاء ، والسنون ، والعجاف ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم .
والسلطان المبين : الحجة الواضحة ، والبرهان الظاهر على صدقه ، وسمى ذلك سلطانا لأن صاحب الحجة والبرهان على ما يدعى ، يقهر ويغلب من لا حجة ولا برهان معه ، كما يقهر السلطان غيره .
والمعنى : ولقد أرسلنا نبينا موسى - عليه السلام - بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، وبحجته القوية الواضحة ، الشاهدة على أنه رسول من عندنا ، إلى فرعون وملئه الذين هم خاصته ، وسادات قومه وكبراؤهم . . .
وخصهم بالذكر مع فرعون ، لأنهم هم الذين كانوا ينفذون أوامره ، ويعاونونه على فساده والضمير فى قوله { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } يعود إلى الملأ .
أى : فاتبعوا أمره فى كل ما قرره من كفر ، وفى كل ما أشار به من فساد .
وفى هذه الجملة الكريمة - كما يقول الزمخشرى - تجهيل لهم ، حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل ، وذلك أنه ادعى الألوهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذى لا يأتى إلا من شيطان ما رد ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته .
وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون ، لتسجيل نهاية فرعون وملئه ، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره . وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة القصة التي لم تذكر هنا ، كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة . وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مباديء الإسلام . مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء . .
ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزودا بقوة من الله وسلطان ، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه .
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه ) . .
ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها ، فإذا هم يتبعون أمر فرعون ، ويعصون أمر الله . على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط :
يقول تعالى مخبرًا عن إرسال موسى ، عليه السلام ، بآياته وبيناته ، وحججه ودلائله الباهرة القاطعة إلى فرعون لعنه الله ، وهو ملك ديار مصر على أمة القبط ، { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي : مسلكه ومنهجه وطريقته في الغي والضلال ، { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : ليس فيه رشد ولا هدى ، وإنما هو جهل وضلال ، وكفر وعناد ، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا ، وكان مُقَدمهم ورئيسهم ، كذلك هو يُقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم ، فأوردهم إياها ، وشربوا من حياض{[14896]} رَدَاها ، وله في ذلك الحظ الأوفر ، من العذاب الأكبر ، كما قال تعالى : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا } [ المزمل : 16 ] ، وقال تعالى : { فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات : 21 - 26 ] ،
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بالتوراة أو المعجزات . { وسلطان مبين } وهو المعجزات القاهرة أو العصا ، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها ، ويجوز أن يراد بهما واحد أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها ، فإن أبان جاء لازما ومتعديا ، والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة ، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء .
«الآيات » : العلامات ، و «السلطان » : البرهان والبيان في الحجة ؛ قيل : هو مشتق من السليط الذي يستضاء به{[6490]} ، وقيل : من أنه مسلط على كل مناو ومخاصم .
عطف قصة على قصة . وعقّبت قصة مدين بذكر بعثة موسى عليه السّلام لقرب ما بين زمنيهما ، ولشدة الصلة بين النبيئين فإن موسى بعث في حياة شعيب عليهما السّلام وقد تزوّج ابنة شعيب .
وتأكيد الخبر ب ( قد ) مثل تأكيد خبر نوح عليه السّلام في قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ هود : 25 ] .
والباء في { بآياتنا } للمصاحبة فإن ظهور الآيات كان مصاحباً لزمن الإرسال إلى فرعون وهو مدّة دعوة موسى عليه السّلام فرعون وملأه .
والسلطان : البرهان المبين ، أي المُظهر صدق الجائِي به وهو الحجّة العقليّة أو التأييد الإلهي . وقد تقدّم ذكر فرعون ومَلإه في سورة الأعراف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ولقد أرسلنا موسى} بأدلتنا على توحيدنا، وحجة تبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيح أنها تدل على توحيد الله وكذب كل من ادّعى الربوبية دونه وبُطُول قول من أشرك معه في الألوهة غيره.
{إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، يعني: إلى أشراف جنده وتبّاعه.
{فاتّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ}، يقول: فكذّب فرعون وملؤه موسى، وجحدوا وحدانية الله، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله، واتبع ملأ فرعون أمر فرعون دون أمر الله، وأطاعوه في تكذيب موسى وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه.
{وَما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}، يعني: أنه لا يرشد أمر فرعون من قبله منه في تكذيب موسى إلى خير، ولا يهديه إلا صلاح، بل يورده نار جهنم.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
قال ابن حزم: نظرنا في القرآن الذي هو المبين لنا ما ألزمنا الله تعالى إياه، فوجدناه كله ليس الرشد فيه إلا الدين، وخلاف الغي فقط، لا المعرفة بكسب المال أصلا. قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} وقال تعالى: {أولئك هم الراشدون}
{وما أمر فرعون برشيد} وما يشك مؤمن ولا كافر أن فرعون وأصحابه كانوا أشد عناية بالمال وأضبط له، وأكثر وأعرف بوجوه جمعه من موسى عليه السلام، وأن فرعون لم يكن قط مغبونا في ماله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى وأقسم أنه أرسل موسى نبيا بالآيات، وهي الحجج والمعجزات الدالة على نبوته "وسلطان مبين "أي وحجة ظاهرة مخلصة من تلبيس وتمويه، على أتم ما يمكن فيه. والسلطان والآيات إن كان معناهما الحجج، فإنما عطف إحداهما على الأخرى، لاختلاف اللفظ، ولأن معناهما مختلف، لأن الآيات حجج من وجه الاعتبار العظيم بها، والسلطان من جهة القوة العظيمة على المبطل، وكل علم له حجة يقهر بها شبهة من نازعه من أهل الباطل تشبهه، فله سلطان. وقد قيل إن سلطان الحجة أنفذ من سلطان المملكة، والسلطان متى كان محقا حجته وجب اتباعه، واذا كان بخلافه لا يجب اتباعه. وقال الزجاج. سمي السلطان سلطانا، لأنه حجة الله في أرضه، واشتقاقه من السليط وهو مما يستضاء به، ومن ذلك قيل للزيت السليط...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كَرَّر قصة موسى عليه السلام تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وتنبيهاً على علوِّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بآياتنا وسلطان مُّبِينٍ} فيه وجهان: أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته، وأن يراد بالسلطان المبين: العصا؛ لأنها أبهرها.
أما قوله: {بآياتنا وسلطان مبين} ففيه وجوه:
الأول: أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام، ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة والتقدير: ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة.
الثاني: أن الآيات هي المعجزات والبينات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقيل: الآيات: التوراة، وهذا ليس بسديد، لأنه قال إلى فرعون وملائه، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه...
والسلطان المبين هو الحجج الواضحة، ويحتمل أن يريد بقوله: وسلطان مبين فيها أي في الآيات، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام...
ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرًا عن إرسال موسى، عليه السلام، بآياته وبيناته، وحججه ودلائله الباهرة القاطعة إلى فرعون لعنه الله، وهو ملك ديار مصر على أمة القبط، {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي: مسلكه ومنهجه وطريقته في الغي والضلال، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ختم قصص الرسل بآيات من قصة موسى وفرعون
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (99)}.
حكمة هذه الآيات الأربع من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه هي الإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين، ولكن عذاب الخزي لم يشمل جميع قوم فرعون لما بيناه من قبل، ولم نر أحدا سبقنا إلى مثله. ولما كان إرسال موسى إلى فرعون لا يصح أن يعطف على إرسال شعيب إلى مدين، لأنه لا يشاركه في نوعه المشترك مع إرسال صالح وهود عطف على قوله {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}، وقد بينا حكمة اختلافه عما قبله فراجعه.
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} أي بآياتنا التسع المعدودة في سورة الإسراء والمفصلة في غيرها [وقد سبق ذكرها في قصته من سورة الأعراف]، وسلطان مبين أي وبرهان واضح البيان، وهو ما آتاه الله من الحجة البالغة في محاوراته مع فرعون، وقيل: هي العصا؛ لأنها أكبر آياته، وعطفها على ما قبلها من عطف الخاص على العام، ولكن الله تعالى قال: {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها} [الزخرف: 48].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون، لتسجيل نهاية فرعون وملئه، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره. وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة التي لم تذكر هنا، كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام. مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء.. ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزودا بقوة من الله وسلطان، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه. (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وملئه).. ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها، فإذا هم يتبعون أمر فرعون، ويعصون أمر الله. على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط...
ونحن نعلم أن الآيات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلاثة أشياء: آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت وربت، وكلها آيات كونية تلفت العقل إلى النظر في أن وراء هذا الكون الدقيق تكوينا هندسيا أقامه إله قادر. وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلاغ عن الله، وهي المعجزات مثل: ناقة ثمود المبصرة، وشفاء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص بإذن الله. ثم آيات الأحكام التي تبين مطلوبات المنهج ب "افعل "و "لا تفعل"... وهنا قال الحق سبحانه: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين}: فهناك آيات تدل على صدقه، وفوق ذلك سلطان ظاهر، إما أن يكون سلطانا يقهر القالب، أو سلطانا حجة تقنع العقل. وسلطان القوة قد يقهر القالب، لكنه لا يقهر القلب، والله سبحانه يريد قلوبا، لا قوالب؛ لذلك قال سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)} [الشعراء]: إذن: فالحق سبحانه يطلب القلوب لا القوالب، قلوب تأتي إلى الله تعالى طواعية بدون إكراه. لذلك فالسلطان الأهم هو سلطان الحجة؛ لأنه يقنع الإنسان أن يفعل.. ولم يكن لموسى عليه السلام سلطان من القوة ليظهر، بل كان له سلطان الحجة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويتابع الله حديث الأمم السالفة، والطواغيت الذين طغوا وبغوا وتمرّدوا على الله، ويدعو إلى أخذ العبرة من ذلك كلّه، ويختصر الله في هذه السورة قصة موسى مع فرعون من الجانب الذي كرّس أجواء السورة لإثارته، وهو جانب النهايات السيئة للبعد عن خط الأنبياء والقرب من خط الطواغيت، سواء بالنسبة إلى الطواغيت أم تابعيهم. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بما أتاه الله من معجزات ودلائل وبراهين، وبما أراده الله له من القوة في الموقف الذي يوحي بالسيطرة على فرعون وجماعته...