استئناف بياني لأن قوله تعالى { وجعلنا منهم أيمة يَهْدُون بأمْرنا } [ السجدة : 24 ] يثير سؤالاً في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهَد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلّين بما يناسب ما قامت به أيمتهم من الهداية فيودّ أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليماً للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
والخطاب للنبيء والمراد أمتُه تحذيراً من ذلك وإيماءً إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين .
والفصل : القضاء والحكم ، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من الهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جارٍ في مهيع أصل الشريعة ؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] .
وليس منه اختلاف أيمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم ؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنّف أحداً ، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنّف بعضهم بعضاً . ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافاً بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقاً من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسَنَّته أنبياؤهم ، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم .
وضمير { هو } في قوله { هو يفصل } ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعاً منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد هو يبين جميع خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون من أمور الدين والبعث والثواب والعقاب، وغير ذلك من أسباب دينهم، فيفرق بينهم بقضاء فاصل بإيجابه لأهل الحقّ الجنة، ولأهل الباطل النار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردودُ من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضيّ من الغوّي، والعدو من الوليّ.. فكم من بهجةٍ دامت هنالك! وكم من مهجةِ ذابت عند ذلك!
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{بينهم يوم القيامة} بين المكذبين بك {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمرك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ويعلي ما بك {هو} أي وحده {يفصل بينهم} أي من الهادين والمضلين والضالين {يوم القيامة} بالقضاء الحق، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم {فيما كانوا} جبلة، طبعاً {فيه} أي خاصة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخطاب للنبيء والمراد أمتُه تحذيراً من ذلك وإيماءً إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.
والفصل: القضاء والحكم، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من الهدى، فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جارٍ في مهيع أصل الشريعة؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات: 1- تقرير تطميني للنبي والمؤمنين وإنذاري للكفار بأن الله سيفصل بين الناس يوم القيامة في ما اختاروه من الطرق المختلفة؛ حيث يحق الحق ويؤيد أهله ويزهق الباطل ويخذل أصحابه.
تلحظ على أسلوب الآية أنها لم تقل مثلا: إن ربك يفصل بينهم، إنما استخدمت الضمير المنفصل (هو) ليفيد التأكيد والاختصاص، فالمعنى لا أحد يفصل بينهم في القيامة إلا الله.
وتأمل هنا أن الله تعالى ذكر لفظ الربوبية فقال "إِنَّ رَبَّكَ".. ولم يقل: إن الله، والربوبية كما قلنا عطاء وتربية، وكأنه سبحانه يقول: اطمئنوا فالذي سيتولى مسألة الفصل هو ربكم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائماً هو مزج الحقّ بالأهواء والميول، ولمّا كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره، فهناك ينهي الله سبحانه الاختلافات بأمره.