والفاء فى قوله - تعالى - : { فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ . . . } واقعة جوابا لشرط مقدر .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن أمرك مع هؤلاءا لمشركين لا يخلو عن حالين : فاستمسك - أيها الرسول الكريم - بما أوحينا إليك من هدايات وإرشادات { إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وطريق قويم لا عوج فيه ولا اضطراب .
( فاستمسك بالذي أوحي إليك . إنك على صراط مستقيم ) . .
واثبت على ما أنت فيه ، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون . سر في طريقك مطمئن القلب . ( إنك على صراط مستقيم ) . . لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد .
وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى ، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود . فهي
مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل . وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود ، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق !
والله - سبحانه - يثبت رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] بتوكيد هذه الحقيقة . وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده ، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق !
لما هوّن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من شدة الحرص على إيمانهم ووعده النصر عليهم فَرّع على ذلك أن أمره بالثبات على دينه وكتابِه وأن لا يخورَ عزمه في الدعوة ضجراً من تصلبهم في كفرهم ونفورهم من الحق .
والاستمساك : شدة المسك ، فالسين والتاء فيه للتأكيد . والأمر به مستعمل في طلب الدوام ، لأنّ الأمر بفعل لمن هو مُتلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه كما دلّ عليه قوله : { إنك على صراط مستقيم } وهذا كما يُدعى للعزيز المُكرَم ، فيقال : أعزك الله وأكرمك ، أي أدام ذلك وقوله : أحياك الله ، أي أطال حياتك ، ومنه قوله تعالى في تعليم الدعاء { اهدْنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .
والذي أوحي إليه هو القرآن . وجملة { إنك على صراط مستقيم } تأييد لطلب الاستمساك بالذي أوحي إليه وتعليل له .
والصراط المستقيم : هو العمل بالذي أوحي إليه ، فكأنه قيل : إنَّه صراط مستقيم ، ولكن عدل عن ذلك إلى { إنك على صراط مستقيم } ليفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردّد في سلوكه ولا خشية الضلال في بُنياته . ومِثله قوله تعالى : { إنّك على الحق المبين } في سورة النمل ( 79 ) .
وحرف { على } للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله : { أولئِك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] . وهذا تثبيت للرّسول صلى الله عليه وسلم وثناء عليه بأنه ما زاغ قِيد أنملة عمّا بعثه الله به ، كقوله : { إنك على الحق المبين } ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم . وهذا أيضاً ثناء سادس على القرآن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاستمسك بالذي أوحي إليك} من القرآن.
{إنك على صراط مستقيم} يعني دين مستقيم...
قال الشافعي: قال الله عز وجل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ففرض عليه الاستمساك بما أوحي إليه، وشهد له أنه على صراط مستقيم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فتمسك يا محمد بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك، "إنّكَ عَلَى صِرِاطٍ مُسْتَقِيمٍ "ومنهاج سديد، وذلك هو دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه ثلاثة:
الثاني: وحي بيان، يبيّن للناس ما لهم وما لله عليهم وما لبعضهم على بعض على لسان المَلَك جبريل أو غيره على ما أراد الله تعالى.
والثالث: وحي إلهام وإفهام كقوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] وما أراه الله تعالى، هو ما ألهمه، وأفهمه أمره عز وجل بالتمسّك على أنواع ما أوحَى إليه: ما هو قرآن، وما هو بيان، وما هو إفهام، وأراه، وأمّنه عن أن يزيغ، أو يزلّ، أو يعدل عن الصواب في ذلك كله: إنك لو تمسّكت بجميع ما أوحي إليك كنت على صراط مستقيم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(فاستمسك بالذي أوحي اليك) من إخلاص العبادة لله تعالى واتباع أوامره والانتهاء عما نهى عنه.
"إنك على صراط مستقيم" وصف الإسلام بأنه صراط مستقيم لأنه يؤدي إلى الحق المطلوب حيث يستقيم بصاحبه حتى يوصله إليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اجتهِدْ من غير تقصير وتوكَّلْ على اللَّهِ من غير فُتور، وِقفْ حيثما أُمِرْتَ، وثِقْ بأنك على صِراطٍ مستقيم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر، فكن مستمسكاً بما أوحينا إليك وبالعمل به؛ فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضالُ شقي، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك، ولكن كما يفعل الثابت الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أوقف سبحانه السامع بهاتين الشرطيتين بين الخوف والرجاء؛ لبيان الاستبداد بعلم الغيب تغليباً للخوف، وأفهم السياق وإن كان شرطاً أن الانتقام منهم أمر لا بد منه، وأنه لا قدرة لأحد على ضرهم ولا نفعهم إلا الله، سبب عنه قوله:
{فاستمسك} أي اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال الإمساك.
{بالذي أوحي إليك} من حين نبوتك وإلى الآن، في الانتقام منهم وفي غيره.
ولما كان المقام لكثرة المخالف محتاجاً إلى تأكيد يطيب خواطر الأتباع ويحملهم على حسن الاتباع، علل ذلك بقوله: {إنك على صراط} أي طريق واسع واضح جداً.
{مستقيم} موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج، فإذا فعلت ذلك لم يضرك شيء من نقمتهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أما أنت {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} فعلا واتصافا، بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه، وحرصا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك.
{إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانيا على أصل أصيل، إذا بنى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود. فهي مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل. وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستمساك: شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام...
والصراط المستقيم: هو العمل بالذي أوحي إليه، فكأنه قيل: إنَّه صراط مستقيم ولكن عدل عن ذلك إلى {إنك على صراط مستقيم} ليفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردّد في سلوكه ولا خشية الضلال في بُنياته...
وهذا تثبيت للرّسول صلى الله عليه وسلم وثناء عليه بأنه ما زاغ قِيد أنملة عمّا بعثه الله به، كقوله: {إنك على الحق المبين} ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم...