ثم بين - سبحانه - الآثار التى تترتب على مقارنة الشيطان للإِنسان فقال : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
والضمير فى { وَإِنَّهُمْ } يعود إلى الشيطان باعتبار جنسه ، وفى قوله - تعالى - { لَيَصُدُّونَهُمْ } يعود إلى { وَمَن } فى قوله { وَمَن يَعْشُ } باعتبار معناها .
أى : ومن يعرض عن طاعة الله ، نهيئ له شيطانا ، فيكون ملازما له ملازمة تامة ، وإن هؤلاء الشياطين وظيفتهم أنهم يصدرون هؤلاء الفاسقين عن ذكر الله - تعالى - ، وعن سبيله الحق وصراطه المستقيم .
{ وَيَحْسَبُونَ } أى : هؤلاء الكافرون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } إلى السبيل الحق . فالضمائر فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } وما بعده يعود إلى الكافرين .
ويصح أن يكون الضمير فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } يعود إلى الكفار ، وفى قوله { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } يعود إلى الشيطان ، فيكون المعنى :
ويظن هؤلاء الكافرون أن الشيطان مهتدون إلى الحق ، ولذلك اتبعوهم وأطاعوهم
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله ، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون :
( وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) . .
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين . أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ؛ ثم لا يدعه يفيق ، أو يتبين الضلال فيثوب ؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم ! حتى يصطدم بالمصير الأليم .
والتعبير بالفعل المضارع : ( ليصدونهم ) . . ( ويحسبون ) . . يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار ؛ يراها الآخرون ، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون .
يقول تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يتعامى ويتغافل ويعرض ، { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } والعشا في العين : ضعف بصرها . والمراد هاهنا : عشا البصيرة ، { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } كقوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] ، وكقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وكقوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ فصلت : 25 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا } . أي : هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ، ويهديه إلى صراط الجحيم .
في موضع الحال من الضمير في قوله { فهو له قرين } [ الزخرف : 36 ] أي مقارنةَ صد عن السبيل .
وضميرَا { إنهم } و ( يصدون ) عائدان إلى { شيطاناً } [ الزخرف : 36 ] لأنه لما وقع من متعلقات الفعل الواقع جواب شرط اكتسب العموم تبعاً لعموم مَن في سياق الشرط فإنها من صيغ العموم مثلُ النكرة الواقعة في سياق الشرط على خلاف بين أيمة أصول الفقه في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط ولكنه لا يجري هنا لأن عموم شيطاناً } تابع لعموم { مَن } إذ أجزاء جواب الشرط تجري على حكم أجزاء جملة الشرط ، فقرينة عموم النكرة هنا لا تترك مجالاً للتردد فيه لأجل القرينةِ لا لمطلق وقوع النكرة في سياق الشرط .
وضمير النصب في ( يصدونهم ) عائد إلى { مَن } لأنّ { مَنْ } الشرطية عامة فكأنه قيل : كلّ من يعشو عن ذكر الرحمان نقيّض لهم شياطين لكل واحد شيطان .
وضميرا { يحسبون أنهم مهتدون } عائدان إلى ما عاد إليه ضمير النصب من ( يصدونهم ) ، أي ويحسب المصدودون عن السبيل أنفسهم مهتدين .
وقد تتشابه الضمائر فتردّ القرينة كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس :
عُدْنا ولولا نحن أحدَقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا
فضمير : أحرزوا ، لجمع المشركين ، وضمير : جمعوا ، للمسلمين . وضمير الجمع في قوله تعالى : { وعمروها أكثر مما عمروها } في سورة الروم ( 9 ) .
والتعريف في { السبيل } تعريف الجنس . والسبيل : الطريق السابلة الممتدة الموصلة إلى المطلوب . وقد مُثلت حالة الذين يَعشُون عن ذكر الرحمان وحال مقارنة الشياطين لهم بحال من استهدى قوماً ليدلّوه على طريق موصل لبغيته فضللوه وصرفوه عن السبيل وأسلكوه في فيافي التيه غِشًّا وخديعة ، وهو يحسب أنه سائر إلى حيث يبلغ طلبته .
فجملة { ويحسبون أنهم مهتدون } معطوفة على جملة { وإنهم } ، فهي في معنى الحال من الضمير في قوله { فَهْو } [ الزخرف : 36 ] والرابط واو الحال ، والتقدير : ويحسب المصدودون أنهم مهتدون بهم إلى السبيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليصدونهم عن السبيل} يعني سبيل الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وإنّهُمْ لَيَصُدّونهُمْ عَنِ السّبِيل" يقول تعالى ذكره: وإن الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحقّ، فيزينون لهم الضلالة، ويكرّهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته.
"وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ "يقول: ويظنّ المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة، أنهم على الحقّ والصواب، يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإنهم ليصدّونهم عن السبيل} السبيل المُطلق هو سبيل الله، والدين المطلق هو دين الله، والكتاب المطلق هو كتاب الله.
{ويحسبون أنهم مهتدون} كانوا يحسبون أنهم مهتدون؛ لأن الشياطين كانوا يزيّنون لهم، ويقولون: إن الذي أنتم عليه هو دين آبائكم وأجدادكم، ولو كانوا على باطل لا على حق ما تُركوا على ذلك ولكن أهلكوا واستُؤصلوا. فإذ لم يُهلكوا، وتُركوا على ذلك، ظهر أنهم كانوا على الحق والهُدى. كانوا يُموّهون لهم ويزيّنون ذلك، وظنوا أنهم على الهدى كما يقول لهم الشيطان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذي سوّلت له نَفْسُه أمراً يَتَوَهَّمُ أنه على صواب، ثم يحمل صاحبَه على موافقته في باطله، ويدّعي أَنه على حقِّ وهو بهذا يَضُر بِنَفْسِه ويضر بغيره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت {من} عامة، وكان القرين للجنس، وأفرده لأنه نص على كل فرد، فكان التقدير: فإنهم ليحملونهم على أنواع الدنايا ويفتحون لهم أبواب الرذائل والبلايا، ويحسنون لهم ارتكاب القبائح والرزايا، عطف عليه قوله مؤكداً لما في أنفس الأغلب -كما أشار إليه آخر الآية- أن الموسع عليه هو المهتدي، جامعاً دلالة على كثرة الضال: {وإنهم} أي القرناء {ليصدونهم} أي العاشين {عن السبيل} أي الطريق الذي من حاد عنه هلك؛ لأنه لا طريق في الحقيقة سواه.
ولما كانت الحيدة عن السبيل إلى غير سبيل، بل إلى معاطب لا يهتدي فيها دليل، عجباً، أتبعه عجباً آخر فقال: {ويحسبون} أي العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ: {أنهم مهتدون} أي عريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون).. هذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيثوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.
والتعبير بالفعل المضارع: (ليصدونهم).. (ويحسبون).. يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار؛ يراها الآخرون، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
السبيل: الطريق السابلة الممتدة الموصلة إلى المطلوب. وقد مُثلت حالة الذين يَعشُون عن ذكر الرحمان وحال مقارنة الشياطين لهم بحال من استهدى قوماً ليدلّوه على طريق موصل لبغيته فضللوه وصرفوه عن السبيل وأسلكوه في فيافي التيه غِشًّا وخديعة، وهو يحسب أنه سائر إلى حيث يبلغ طلبته...
والاهتداء: العلم بالطريق الموصل إلى المقصود...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين فقالت: (وإنّهم ليصدونهم عن السبيل). فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبداً. وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: (ويحسبون أنهم مهتدون)...