ولذا عقب الله - تعالى - على تضرعهم هذا بقوله : { أنى لَهُمُ الذكرى . . } أى : كيف يتأتى لهم التذكر والاعتبار والاتعاظ . .
والحال أنهم { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الى لم يترك بابا من أبواب الخير إلا وأرشدهم إليه ، ولم يترك وسيلة من وسائل الهداية إلا وسلكها معهم . .
يقول : كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه ، بل كذبوه وقالوا : معلم مجنون . وهذا كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 23 ، 24 ] ، وقوله{[26191]} تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ . وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ . وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ } [ سبأ : 51 - 54 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنّىَ لَهُمُ الذّكْرَىَ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّبِينٌ * ثُمّ تَوَلّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلّمٌ مّجْنُونٌ * إِنّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنّكُمْ عَآئِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من أيّ وجه لهؤلاء المشركين التذكر من بعد نزول البلاء بهم ، وقد تولوا عن رسولنا حين جاءهم مدبرين عنه ، لا يتذكرون بما يُتلى عليهم من كتابنا ، ولا يتعظون بما يعظهم به من حججنا ، ويقولون : إنما هو مجنون عُلّم هذا الكلام . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : أنّى لَهُمُ الذّكْرَى قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أنّى لَهُمُ الذّكْرَى يقول : كيف لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنّى لَهُمُ الذّكْرَى بعد وقوع هذا البلاء .
هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جواباً عن قول القائلين { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } [ الدخان : 12 ] تكذيباً لوعدهم ، أي هم لا يتذكرون ، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأمَّا على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله : { بل هم في شكٍ يلعبون } [ الدخان : 9 ] وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بُعداء عن الذكرى .
و { أنَّى } اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاماً عن الأحوال بمعنى ( كيف ) بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله : { وقد جاءهم رسول مبين } . والمعنى : من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم بالتذكير .
والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة ، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه . فجملة { وقد جاءهم } في موضع الحال .
و { مبين } اسم فاعل إما من أبان المتعدّي ، وحذف مفعوله لدلالة { الذِكرى } عليه ، أي مبين لهم ما به يتذكرون ، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بانَ ، أي رسول ظاهر ، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه .
وإيثار { مبين } بتخفيف الياء على { مبيّن } بالتشديد من نكتِ الإعجاز ليفيد المعنيين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.