وقوله : { عينا } منصوب على المدح .
أى : ومزاج هذا الرحيق وخليطه كائن من ماء لعين فى الجنة ، مرتفعة المكان والمكانة ، هذه العين يشرب منها المقربون إلى الله - تعالى- شرابهم .
قال الآلوسى : والباء فى قوله { بها } إما زائدة . أى يشربها . أو بمعنى من . أى : يشرب منها ، أو على تضمين يشرب معنى يروى . أى : يشرب راوين بها . أى يروى بها المقربون . .
وإلى هنا نجدد أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت الأبرار ببشارات متعددة ، بشرتهم بأن صحائف أعمالهم فى أعلى عليين ، وبأنهم فى تعيم مقيم ، وبأنهم ينظرون إلى كل ما يشرح صدورهم ، وبأن الناظر إليهم يرى آثار النعمة والرفاهية على وجوههم ، وبأن شرابهم من خمر طيبة لذيذة الطعم والرائحة .
ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : ( ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : ( تسنيم )التي ( يشرب بها المقربون ) . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وإن قوله ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ? !
ألا إن السباق إلى هناك . . ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . .
قول تعالى ذكره : ومِزاج هذا الرحيق من تسنيم والتسنيم : التفعيل من قول القائل : سنمتهم العين تسنيما : إذا أجريتها عليهم من فوقهم ، فكان معناه في هذا الموضع : ومِزاجه من ماء ينزل عليهم من فوقهم فينحدر عليهم . وقد كان مجاهد والكلبيّ يقولان في ذلك كذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تَسْنِيمٍ قال : تسنيم : يعلو .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبيّ ، في قوله : تَسْنِيمٍ قال : تسنيم ينصبّ عليهم من فوقهم ، وهو شراب المقرّبين .
وأما سائر أهل التأويل ، فقالوا : هو عين يمزج بها الرحيق لأصحاب اليمين ، وأما المقرّبون ، فيشربونها صِرْفا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين في الجنة يشربها المقرّبون ، وتُمزج لأصحاب اليمين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : يشربه المقرّبون صِرفا ، ويمزج لأصحاب اليمين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مالك بن الحرث ، عن مسروق ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين في الجنة يشربها المقرّبون صِرفا ، وتُمزج لأصحاب اليمين .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ قال : يشرب بها المقرّبون صِرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين .
حدثني طلحة بن يحيى اليربوعيّ ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مالك بن الحرث ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : في الجنة عين يشرب منها المقرّبون صِرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ صِرفا ، ويمزج فيها لمن دونهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مالك بن الحارث ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : التسنيم : عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين يشرب بها المقرّبون ، ويمزج فيها لمن دونهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ عينا من ماء الجنة ، تُمزج به الخمر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : خفايا أخفاها الله لأهل الجنة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : هو أشرف شراب في الجنة ، هو للمقرّبين صِرف ، وهو لأهل الجنة مِزاج .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شراب شريف ، عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا ، وتُمزج لسائر أهل الجنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ قال : بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش ، وهي مِزاج هذه الخمر : يعني مِزاج الرحيق .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ شراب اسمه تسنيم ، وهو من أشرف الشراب .
فتأويل الكلام : ومزاج الرحيق من عين تُسَنّم عليهم من فوقهم ، فتنصبّ عليهم يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ من الله صرفا ، وتمزج لأهل الجنة .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : عَيْنا فقال بعض نحويّي البصرة : إن شئت جعلت نصبه على يُسْقون عينا ، وإن شئت جعلته مدحا ، فيُقطع من أوّل الكلام ، فكأنك تقول : أعني عينا .
وقال بعض نحويّي الكوفة : نصب العين على وجهين : أحدهما : أن يُنْوَى من تسنِيم عَيْن ، فإذا نوّنت نصبت ، كما قال : أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيما ، وكما قال : ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتا أحْياءً . والوجه الاَخر : أن ينوى من ماء سُنّم عينا ، كقولك : رفع عينا يشرب بها . قال : وإن لم يكن التسنيم اسما للماء ، فالعين نكرة ، والتسنيم معرفة ، وإن كان اسما للماء ، فالعين نكرة فخرجت نصبا . وقال آخر من البصريين : مِنْ تَسْنِيمٍ معرفة ، ثم قال عَيْنا فجاءت نكرة ، فنصبتها صفة لها . وقال آخر نُصبت بمعنى : من ماء يَتَسَنّم عينا .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن التسنيم اسم معرفة ، والعين نكرة ، فنصبت لذلك إذ كانت صفة له . وإنما قلنا : ذلك هو الصواب لما قد قدّمنا من الرواية عن أهل التأويل ، أن التسنيم هو العين ، فكان معلوما بذلك أن العين إذ كانت منصوبة وهي نكرة ، أن التسنيم معرفة .
وقوله تعالى : { يشرب بها } معناه : يشربها كقول الشاعر [ أبو ذؤيب الهذلي ] : [ الطويل ]
شربن بماء البحر ثم تصعدت*** متى لجج خضر لهن نئيج{[11693]}
وباء { يشرب بها } إما سببية ، وعُدي فعل { يشرب } إلى ضمير العين بتضمين { يشرب } معنى : يمزج ، لقوله : { ومزاجه من تسنيم } أي يمزجون الرحيق بالتسنيم . وإمَّا باء الملابسة وفعل { يشرب } معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق ، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين ، أي محيطين بها وجالسين حولها . أو الباء بمعنى ( مِن ) التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء ، وينسب إلى الكوفيين . واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ( مِن ) ، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة ، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب :
شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت *** متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ