وعندما واجههم إبراهيم - عليه السلام - بهذا الحكم البين الصريح ، قالوا له : { أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } .
أى : أجئتنا يا إبراهيم بالحق الذى يجب علينا اتباعه ، أم أنت من اللاعبين اللاهين الذين يقولون ما يقولون بقصد الهزل والملاعبة .
وسؤالهم هذا يدل على تزعزع عقيدتهم . وشكهم فيما هم عليه من باطل ، إلا أن التقليد لآبائهم . جعلهم يعطلون عقولهم " ويستحبون العمى على الهدى " .
ويجوز أن يكون سؤالهم هذا من باب الإنكار عليه . واستبعاد أن يكون آباؤهم على باطل ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله ، إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجد ، فقالوا له : هذا الذى جئتنا به ، أهو جد وحق أم لعب وهزل .
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالاً ، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق ، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا { أجئتنا بالحق } ، فعبروا عنه { بالحق } المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ . فالمعنى : بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح ، فاستفهموا وسألوه { أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } . والباء للمصاحبة . والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحاً ، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل استجلاباً لخاطره لما رأوا من قوة حجته .
وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكناً في اللعب ومعدوداً من الفريق الموصوف باللعب .
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم { أم أنت من اللاعبين } لإبطال أن يكون من اللاعبين ، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات ، أي وليست تلك التماثيل أرباباً إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى { قال أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكَر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلاّ مربوبة مخلوقة وليست أرباباً ولا خالقة . t فضمير الجمع في قوله تعالى { فطرهنّ } ضمير السماوات والأرض لا محالة .
فكان جواب إبراهيم إبطالاً لقولهم { أم أنت من اللاعبين } معَ مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق . وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا أجئتنا} يا إبراهيم {بالحق أم أنت من اللاعبين} قالوا: أجد هذا القول منك، أم لعب يا إبراهيم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قالُوا أجِئْتَنا بالحَقّ"؟ يقول: قال أبوه وقومه له: أجئتنا بالحقّ فيما تقول أمْ أنْتَ هازل لاعب "مِنَ اللاّعِبِينَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لما علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان. {قالوا أجئتنا} بما تقول بحجة {أم أنت من اللاعبين} تلعب بنا، وتهزأ؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه أجاد أنت فيما تقول محق عند نفسك أم أنت لاعب مازح؟ وذلك أنهم كانوا يستبعدون إنكار عبادتها عليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ. فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟
فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصا ورأوه ثابتا على الإنكار قوي القلب فيه، وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم، فعند ذلك قالوا له: {أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جادا في ذلك، فعنده عدل صلى الله عليه وسلم إلى بيان التوحيد.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل، وعن اللعب بالجملة الإسمية، لأنه أثبت عندهم.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وإنما رددوا الكلام بين الأمرين، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم، كلام سفيه لا يعقل ما يقول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير، وبهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون: (قالوا: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟).. وهو سؤال المزعزع العقيدة، الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه. ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد، فهو لا يدري أي الأقوال حق. والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل! وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالاً، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا {أجئتنا بالحق}، فعبروا عنه {بالحق} المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ. فالمعنى: بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه {أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين}. والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحاً، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزح التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل؛ استجلاباً لخاطره لما رأوا من قوة حجته. وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكناً في اللعب ومعدوداً من الفريق الموصوف باللعب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد استغرق الضلال قلوبهم، وسد مسامع الإدراك في أفكارهم، فحسبوا أن ذلك هو الحق وهو الضلال بعينه، قالوا مستفهمين {أجئتنا بالحق} والاستفهام هنا بمعنى النفي، فهو لإنكار الوقوع، ومعناه: ما جئتنا بالحق، بل أنت من اللاعبين، و {أم} للإضراب عن كلامه الحق إذ قد صمت آذانهم عنه، {أم أنت من اللاعبين} واستأنفوا كلاما جديدا، وحكموا بأنه من اللاعبين أي أنه يهزل بهذا الكلام، ولا يجدّ، ووصفوه بوصف مستمر وهو أنه من اللاعبين، ولصغره، حيث إنه كان بالنسبة لهم صغير السن، وقد أكدوا لعبه بالجملة الاسمية، وب"أنت"، وبإدخاله في صفوف الهازلين، لأنهم لا يعيرون كلامه التفاتا، ولا يجعلون له غاية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنهم يتساءلون في تعجب واستنكار لما صدر منه من كلام ضدّهم وضدّ أصنامهم، كأنهم لا يصدّقون جدّيته، لأن من البعيد أن يفكر هذا الفتى بهذه الطريقة المتشنّجة، ولذا فإنهم يصوغون اعتراضهم بصيغة الاستفهام ليقودوه إلى التراجع من دون إحراج، ليعتذر إليهم بأنه قال ما قاله بأسلوب العبث واللعب.