تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ} (17)

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب ، لمن تأملها ، وكرر النظر{[16096]} فيها ، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه . ولهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي : الكواكب .

قلت : وهذا كقوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [ الفرقان : 61 ] ومنهم من قال : البروج هي : منازل الشمس والقمر .

وقال عطية العوفي : البروج هاهنا : هي قصور الحرس{[16097]}

وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين ، لئلا يسمعوا{[16098]} إلى الملأ الأعلى ، فمن تمرد منهم [ وتقدم ]{[16099]} لاستراق السمع ، جاءه { شِهَابٌ مُبِينٌ } فأتلفه ، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه ، فيأخذها الآخر ، ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح ، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان{[16100]} عن عمرو ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان " . قال علي ، وقال غيره : صفوان يَنفُذهم ذلك ، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير . فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع ، هكذا واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى ، نَصبَها بعضها{[16101]} فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه ، وربما لم يدركه [ حتى ]{[16102]} يَرْمي بها إلى الذي يليه ، [ إلى الذي ]{[16103]} هو أسفل منه ، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى{[16104]} على فم الساحر - أو : الكاهن - فيكذب معها مائة كذبة{[16105]} فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقًّا ؟ للكلمة التي سمعت من السماء " {[16106]}


[16096]:في ت: "نظره".
[16097]:في ت: "الحرس فيها".
[16098]:في أ: "لئلا يسمعوا".
[16099]:زيادة من ت، أ.
[16100]:في ت: "حدثنا ابن سفيان".
[16101]:في أ: "بعضا".
[16102]:زيادة من ت، أ، والبخاري.
[16103]:زيادة من ت، أ، والبخاري.
[16104]:في ت، أ: "فيلقى".
[16105]:في ت، أ: "كذبة فيصدق".
[16106]:صحيح البخاري برقم (4701).

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ} (17)

قوله : { وحفظناها من كل شيطان رجيم } فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال . وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص ، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة . فهو يرتبط بقوله : { وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] .

وكانوا يقولون : محمد كاهن ؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحجّ إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادّعى النبوءة . وقد عرضوا عليه أن يقولوا هو كاهن ، فكان من كلام الوليد أن قال . . ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزة الكاهن ولا سجعه ، قال تعالى : { ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } [ سورة الحاقة : 42 ] . وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء ، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب .

والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات . والشيطان تقدم في سورة البقرة .

والرجيم : المحقر ؛ لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحداً حصبوه بالحصباء ، كقوله تعالى : { قال فاخرج منها فإنك رجيم } [ سورة الحجر : 34 ] ، أي ذميم محقر .

والرّجام بضم الراء الحجارة . قيل وهي أصل الاشتقاق . ويحتمل العكس . وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رِغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة .

قال جرير :

إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما تَرمون قبر أبي رِغال

والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح { قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ سورة الشعراء : 116 ] . وعن أبي إبراهيم { لئن لم تنته لأرجمنك } [ سورة مريم : 46 ] . وقال قوم شعيب : { ولولا رهطك لرجمناك } [ سورة هود : 91 ] .

وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله : { فأتبعه شهاب مبين } لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله : { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين } .